الدولة والصراع الاجتماعي



(1)

لا يعني قيام الدولة انتفاء الصراع داخل المجتمع على مستويات متعددة، لكن من المفترض أن تقوم سلطات الدولة المتعددة في تأطير هذا الصراع على الصعيد الوطني، وحل المشكلات استنادًا إلى القوانين والأنظمة النافذة، فماذا يقول فقهاء القانون عن الصراع داخل المجتمع، وما هي أسس الاختلاف فيما بينهم، وما هي الأسس التي يتفقون عليها؟

سنكتفي في هذا البحث بمناقشة آراء ثلاثة فقهاء قانونيين بهذا الشأن من مدارس مختلفة: عصمت سيف الدولة، وجورج بوردو، ورادوميل لوكيل.

يقول عصمت سيف الدولة: “إن المجتمع قد يخلق الصراع الاجتماعي بين الأفراد على مستوى امتداده الأفقي، وبين الفئات والجماعات على مستوى امتداده الرأسي، وبين المتخلفيّن والمتقدميّن على مستوى تطوره إلى المستقبل. ويؤدي هذا الصراع الاجتماعي إلى التخلف، نتيجة لدوره المعوّق للجدل الاجتماعي. لهذا خوّل ذلك الجهاز (السلطة)، منذ أن وجد سلطة الردع ليفرض حل الأغلبية على الأقلية المتمردة أفرادًا، وجماعات. ومهما اختلف شكل تلك السلطة، ومن يتولاها؛ فإن وجودها حلّ لمشكلة طرحها ويطرحها المجتمع بوجوده ذاته، وقد أضيفت إليه نظامًا مخلوقًا سيظل قائمًا، ما دام المجتمع واحدًا، والأفراد متعددين، وما دام الإنسان لا يوجد إلا في مجتمع، والمجتمع لا يوجد إلا من بني الإنسان ستظل قائمة كسلطة إدارة للمصالح المشتركة، وتلك مهمة باقية ببقاء المجتمعات، وهي مبرر وجودها”(1).

ماذا عن العلاقة بين الأمة والدولة؟

يقول عصمت سيف الدولة: “إن وجود الأمة الواحدة يفرض أن تكون لها الدولة القومية الواحدة، جهازًا لتحقيق المصير الواحد، وفي المصير الواحد حل مشكلات الكل، والأجزاء معًا، بل إن مشكلات الأفراد، والأجزاء في الأمة الواحدة لا يمكن -بل يستحيل- أن تجد حلها التقدمي السليم إلا في ظل الدولة القومية الواحدة. فإن وجدت الدول المتعددة في الأمة الواحدة؛ فلن تعود بها قبائل لأن الماضي لا يعود، ولكن تمزقها أقاليم يصارع بعضها بعضًا إلى أن تعود إلى الوحدة، أو تقع فريسة لمن لهم الأداة الواحدة لتنفيذ رأيهم الواحد. ولم يكذب التاريخ هذا قط، فكلما اكتمل نمو الأمة؛ حققت بإرادتها الدولة القومية”(2).

وعن مجيء الوحدة السياسية في آخر مراحل نمو الأمة، وعند اكتمالها، يقول: “إن حل المشكلات لا يأتي إلا بعد أن تثور، وقد بدأت الأمم في التكوين بعد أن حلت مشكلة الهجرة بالاستقرار، وعندما استقرت داخلة بهذا طور التكوين القومي، كانت تتضمن من وحدات تكوينها السابق أسرًا استقرت فأصبحت قرى، وقبائل استقرت فأصبحت مناطق، وأقاليم، وظلت على هذا إلى أن أصبحت التجزئة مشكلة، يعوق تعدد السلطات فيها حل المشكلات التي تطرحها الظروف الواحدة، فحلت بالوحدة السياسية، بالدولة القومية”(3).

وماذا عن الروابط العائلية، والمحلية؟ يُضيف سيف الدولة: “إن الوجود القومي لا يلغي الروابط العائلية، والمحلية، والإقليمية بل يشملها، ويكملها، إضافة إلى قدرتها على التطور، ويحددّها كما يُحدّد الكلّ الجزء. فالدولة القومية لا تلغي الإدارات المحلية والإقليمية، ولكن تشملها، وتكملها إضافة إلى مقدرتها على التقدم إلى المزيد من الحرية، وتحددّها كما تتحدد الأجزاء بالكل الواحد”(4).

وهكذا تكون الدولة القومية الواحدة للأمة الواحدة هي القادرة على حل المشكلات الواحدة. نقول القادرة بمعنى أن تجزئة الأمة إلى دول لا يعني إلا فشل حل المشكلات ذات الطبيعة الواحدة، والتي لا يمكن تجزئتها بعدد الدول المُصطنعة، كما أن الدولة (الجزء) لا تستطيع أن تحيط بالمشكلة الكلية التي تتجاوز حدودها، وتشمل الأمة كلها. وبذلك فإن (الدولة الجزء) لا تستطيع أن تحيط بالمشكلة، ولا تملك إمكانات حلها في الوقت ذاته.

(2)

لقد بذل المستبدون والغاصبون جهودًا مُضنية، فكرية، وقانونية، وقمعية، واستبدادية، للفصل بين الدولة، وبين مستندها الوطني الاجتماعي الصلب؛ لإن ذلك يُمكن أن يحولهّا من (دولة المجتمع) إلى (دولتهم)، سواء أكانوا أفرادًا أم طبقة أم عصابة، ونحن لا نقول إن هؤلاء الذين عددناهم لا يستطيعون أن يسيطروا على (الدولة القومية)، ولكننا نقول إننا في ظل الدولة القومية نستطيع أن نحل مشكلة الاستبداد، والغصب ولو بعد حين، لأن المجتمع القومي المتماسك يوفر إمكانات فهم المشكلة، ويوفر إمكانات حلها. أما (الدولة الجزء) فإن وجودها ذاته هو تعبير عن تفاقم المشكلة، فلا تملك إلا أن تشوّه حقيقتها، وحتى في حال فهمها، فإن إمكانات الحل لا تكون متوفرة في (الجزء).

(3)

أما الفقيه جورج بوردو فيقول عن سعي المستبدين للسيطرة على الدولة المجتزأة من الأمة: “لأنهم وجدوا في الدولة السند الذي سمح لهم بالوجود، بات بالإمكان التطرق لمسألة السلطة اللاقومية”(5).

فالدولة ليست السند الأساسي، والذين يقولون ذلك يريدون أن يبررّوا للمستبدين والغاصبين ما يفعلون، فإذا كانت الدولة هي الأساس والمستند، فإن صاجها (الحاكم، المستبد، الغاصب، العصابة) يستند إلى امتلاكه ناصيتها، فيستخدمها بالاتجاه الذي يخدم مصالحه. يقول بوردو: “في كل مكان تُبذل الجهود لفك السلطة عن مستندها الوطني. ولكن تجاوز الأمة يفترض وجودها”(6).

وهكذا، حتى في حال حسن النية بالنسبة إلى أولئك الذين يدعوّن تجاوز (الأمة) إلى مجتمع إنساني أرحب، فإن مشروعية هذه الدعوة تستند إلى وجود الأمة أولًا، ورفع أي عدوان عنها (داخليًا كان أم خارجيًا) لتمتلك إرادتها في مجال التحاور الإنساني، وفي هذه الحالة فقط تُصبح مؤهلة لأن تدخل هذا المجتمع الإنساني المنشود.

لقد ولد في ضمائر المحكومين الذين خبروا التعسّف -كما يقول بوردو- “برهان ذو حدّين، كان الرافعة القوية للتطور السياسي. إما أن تكون السلطة مرتبطة بوظيفة حيث تجد صفتها، وغاياتها، وإما أن تكون ملكًا لبضعة أفراد، وبالتالي أداة لإرادتهم وأهوائهم”(7).

ويضيف: “ثمة توافق بين تكوّن مؤسسة الدولة في القرن السادس عشر، وبين ضعف السيطرة الكاثوليكية المرافقة للنهضة، وقد يكون من الإفراط التأكيد بأن ظهور الدولة هو نتيجة الأزمة التي عانت منها الكنيسة في بداية العصور الحديثة، علينا أن نتحقق مع ذلك أن تكون الدولة القومية التي سهّل قيامها سقوط الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة المتسمة بالعالمية الكاثوليكية، بات أيضًا أكثر ضرورة مع التراجع الوقتي للأعيان”(8).

فتوازن المجتمع هو الأساس الذي يمكن أن تبنى عليه مؤسسات حقيقية وقانونية. يقول بوردو: “إن المجتمع المتوازن سياسيًا هو ذلك الذي يتمتع بحيوية كافية كي يغتني بتنافس السلطات، ويلائم بالتالي بنيته مع النمو الملازم لكل كائن حي”(9).

ذلك لأن القاعدة القانونية تُلزم الفرد، ولكنها تتعلق بالمجتمع، “وهذا بالطبع حال الكثير من القواعد الاجتماعية. ومع ذلك إذا كانت القاعدة القانونية، قاعدة اجتماعية من جملة قواعد أخرى فهي تمثل خصوصية لا تستطيع القواعد الأخرى أن تستفيد منها، إذا كانت ضرورية جدًا لتحقيق الهدف الاجتماعي مما يستدعي عملًا فكريًا يُحددّها، ويصوغها، وإرادة تفرضها، وقوة إكراه تعاقب مخالفتها”(10).

ولعل المثال الصارخ الذي يلي (الحالة العربية) هو الدول التي (صنعّها) الاستعمار في إفريقيا، والتي ضربت بنية المجتمعات التي كانت في طور التكوين، وأعاقت تطور تلك المجتمعات. يقول بوردو: “يكفي النظر إلى الدول الإفريقية التي ولدت بعد زوال الاستعمار. فنرى أن الدول التي نالت استقلالها مثقلة بالعديد من القضايا. وثمة قضية أساسية بين هذه القضايا هي المسألة القومية. حيث تبقى الصعوبة أكبر أمام الدول الجديدة هي تلك التي تضعها أمامها بنية أساسها الوطني، ووحدته”.(11)

(4)

وإذا كانت الدولة أداة (المجتمع) أو أداة (بيد مُستبّد، أو غاصب، أو عصابة، أو طبقة)، فإنها لا تكفّ عن التدخل في التأثير ببنية المجتمع – إيجابًا أو سلبًا، يقول رادومير لوكيل: “إن الدولة والقانون يعاودان التأثير على الزمر الاجتماعية والتنظيمات الاجتماعية المعنية، إنهما يدعمان ويطوران البعض منها بمساعدتها، ويدمران الأخرى بمحاربتها، وبمقاومة وجودها”(12).

وحتى عندما ذهب “لوكيل” إلى أن الدولة أداة بيد الطبقة المسيطرة ، فإنه لاحظ أن الإدارة الحكومية قد تنفصل عن هذه الطبقة إلى حدٍّ ما، لتعبّر عن نفسها بشكل مستقل، يقول لوكيل: “إن الدولة والقانون هما قبل كل شيء أداتان للطبقة المسيطرة، فالدولة مشكّلة من أناس يمارسون السلطة الحكومية، وهؤلاء هم على الأخص أعضاء الطبقة المسيطرة، أو أناس مرتبطون بشدة بطريقة، أو بأخرى. وما تفعله الدولة، هو بصورة خاصة ما تقرره الطبقة المسيطرة، ولكن للإدارة الحكومية مع ذلك أن تنفصل عن الطبقة المسيطرة، قلّ ذلك، أو كثر”(13).

وتشارك الدولة، والقانون في الصراع الأيديولوجي: “فالدولة قد تنشر بنشاط نوعًا من الأيديولوجيا، وتضغط بنشاط أيضًا على أيديولوجيات أخرى إما بواسطة أجهزة (أيديولوجية خاصة)، وإما باستعمال مباشر لجهازها القسري”(14).

وعندما يعجز “لوكيل” عن تفسير كل التغيرات التي تطرأ على الدول بتغيرات البنية الاقتصادية؛ يقول: “لتفسير كل التغيرات في الدولة والحق؛ نكتشف كم هو غير كاف تفسير كل الثورات بواسطة التغييرات في البنية الاقتصادية، فالمجتمع كيان لا ينقسم، ومترابط جدليًا. وهذا يعني أنه يمكن اعتماد أن بعض التغيرات الكمية في الدولة، والقانون هي مثارة بعامل اجتماعي”(15).

(5)

الحقيقة أن نموذج (الدولة التي سيطرت عليها الطبقة البورجوازية في أوروبا) كانت وراء العديد من القواعد الفقهية، والقانونية، والفلسفية، والسياسية التي سادت بعد ذلك. فقد نجحت الطبقة الرأسمالية في الدول الأوروبية نجاحًا بارزًا، في أن تطوّع القوانين والأنظمة والمؤسسات التي كانت نتيجة لإبداعات خلاقة في الفكر، والفلسفة، والقانون، والدولة، والاجتماع، لمصلحتها، وأن تحلّ هي (الطبقة الرأسمالية) مكان (سيادة الأمة)، أو (سيادة الشعب) في التربّع على رأس سلطات تلك الدول، وتديرها لمصلحتها مستخدمة في ذلك قوتها الاقتصادية المتنامية، لكن الأمور لم تسر على هذا المنوال، في كل مكان من العالم، بل إذا كان (الاقتصاد هو الذي يصنع السياسة) كما يقولون، في الدول الأوروبية، فإن المجتمعات التي استلب المستعمرون إرادتها وإدارتها قهرًا واغتصابًا وسرقة، فإنهم قد ضربوا بنية تلك المجتمعات الاقتصادية، وغير الاقتصادية، وبالتالي فإنهم عندما أقاموا عليها دولًا فإن تلك الدول كانت في الغالب فريسة لأولئك (الأفندية) الذين حازوا على حسن سيرة وسلوك في أثناء تعاملهم الطويل مع المستعمر. وهؤلاء هم الذين أضحوا وكلاء المستعمر السياسيين في إدارة تلك الدول، وهم الذين كانوا وكلاء المستعمر الاقتصاديين، فكانوا مسوقين لثروات شعوبهم تصديرًا للمستعمر، ومسوقين لإنتاج مصانعه مستوردين لسلعه، هؤلاء هم الذين شكلوا عنصر القوة التي سيطرت على مؤسسات الدولة، فتكاتفوا ليكونوا مراكز القوى في الاقتصاد والسياسة، والجيش، والشرطة، والأمن، وكافة مؤسسات الدولة، وبُسبب هشاشة بنية المجتمع المجزأ، فإن هؤلاء جعلوا من مؤسسات السلطة مركزَ القوة المركزي في المجتمع، تحيط به مراكز القوى على شكل دوائر، تضعف قوتها كلما ابتعدت عن المركز، بينما تزداد قوتها كلما اقتربت من المركز، وبالتالي أصبحت السلطة هي مركز القوة الاقتصادية، والذي يبتعد عن مركزها يفقد هذه القوة، وهذا ما يفسر التبدل السريع في مواقع القوة الاقتصادية للأفراد والشرائح. فبمجرد أن يفقد صاحب (النفوذ)، أو صاحب القوة الاقتصادية مركزه في السلطة، أو علاقته مع أحد مؤسساتها؛ يفقد قوته الاقتصادية على الأغلب، بل قد يُحاسب على ما حققه في فترات سابقة، وهذه القضية على أكبر قدر من الأهمية؛ إذ إن ذلك يُسهلّ عملية تبعية السلطة للقوة الخارجية من جهة، ويُسهلّ عملية تغييّر (أشخاص السلطة) في حال الضرورة، وفي الوقت ذاته تمسك الدولة بعصب الحياة في المجتمع، فتتلاعب به كما يحلو لها بالمشاركة مع الاحتكارات الأجنبية، والشركات متعددة الجنسيات، وهذه إحدى النتائج لإقامة دول لا قومية، ورعايتها، وتحريكها من الخارج بشكل مباشر، أو عن طريق التحكم عن بعد.

هوامش ومراجع

(1) و(2) و(3) و(4) نظرية الثورة العربية، الكتاب الثاني، صفحة (57) وما بعد.

(5) جورج بوردو، الدولة، صفحة (36).

(6) و(7) و(8) المصدر السابق، صفحة (36) وما بعد.

(9) المصدر السابق صفحة (114).

(10) المصدر السابق صفحة (58).

(11) المصدر السابق صفحة (33).

(12) رادومير لوكيل، الدولة والحق، مصدر سابق، صفحة (140).

(13) المصدر السابق صفحة (136).

(14) المصدر السابق صفحة (143).

(15) المصدر السابق صفحة (148).


حبيب عيسى


المصدر
جيرون