on
“يا نساء الغرب…”
ألم يفهم الجند بعدُ أن كل (بُقْجة) على ظهر امرأةٍ هي مخطوط احتجاجٍ جاهز للطبع وراء الحدود..*
اغتصاب الحياة، اغتصاب اللقمة، اغتصاب العقل، اغتصاب الروح، اغتصاب الوطن، اغتصاب الحرية، اغتصاب الحق، اغتصاب الحُب، اغتصاب القيم، اغتصاب الإبداع والحُلم، اغتصاب المدن والعواصم، اغتصاب الطفولة والأمومة والأبوّة والبنوّة والأخوّة والجيرة والصداقة، اغتصاب الطبيعة، اغتصاب البيوت، اغتصاب العدل والقانون، اغتصاب الأمل، اغتصاب الأرض، اغتصاب الخصوصية والفرادة، اغتصاب الماضي والحاضر والمستقبل، اغتصاب الجسد…كلّها اغتصابات تحصل على مرأى ومسمع هذا العالم “الحر”. لكن حقًا نقول: إذا كان هذا العالم يرغب حقًا في أن يعيش بسلام وكرامة؛ فعليه ألا يتجاهل وألا يكون حياديًا حيال كل اغتصاب وأي اغتصاب. عليه ألا يتجاهل وألا يكون حياديًا حيال ما يحصل في سورية -على سبيل المثال الأخطر- من كوارث وجرائم ومآسٍ ومِحَن، وأن ينصت جيدًا إلى صرخة النساء السوريات مثلًا، في الفيلم الوثائقي المفجع والمفزع (سوريا.. الصرخة المخنوقة) الذي أخرجته مانون لوازو وعرضته قناة (فرانس2)، كانون الأول/ ديسمبر 2017. أن ينصت إلى كل صرخة مماثِلة، وأن يرفع الصوت عاليًا لصالح إنسانية، تهدمها قوى بطشٍ وجهلٍ وعماءٍ وبربرية. الحق نقول: ينبغي إيقاف هذا القاتل الأكبر في سورية، أعني بشار الأسد ونظامه، بل جرّه هو وكل القتلة من أمثاله، ممن ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إلى محاكم عادلة نزيهة وشفّافة. مرّت سنوات طويلة، وهو يقتل ويمعن في تدمير سورية، ترى كم من الزمن يجب أن يمرّ حتى ينتهي هذا القاتل! الحق نقول: لن تكون البشرية بخير، لن يكون العالم آمنًا، ما لم تتحقق العدالة.
***
في الفيلم الوثائقيّ المذكور آنفًا، وخلال حديث السيدات عن تجاربهن المأسوية المرعبة فيه، تتكشّف قضايا أخرى شائكة تشتبك مع جرم الاغتصاب. قضايا اجتماعية، ثقافية، سياسية، قانونية وحقوقية، بحيث لا يعود الاغتصاب وحده هنا جريمة ينبغي إحقاق العدالة في شأنها والتفكير في حلولٍ ناجعة حيال ضحاياها نساءً وأطفالًا ورجالًا، بل التعاطي المذل والمهين، وأحيانًا القاتل، من قبل المجتمع التقليدي المتخلف مع ضحية الاغتصاب، هو أيضًا جريمة. ترى أليس غريبًا وعجيبًا أن الحاضنة الشعبية التي احتضنت الثورة والثوار؛ تعجز عن احتضان نساء ثائرات سلميّات مسعِفات وإنسانيات اغتُصبن عقابًا على ذلك كله، ولإذلال البيئة الحاضنة للثورة؟! إنْ كان هنا ثمة قاسم مشترك حقيقي بين الاستبداد الديني والاستبداد الأسدي واستبداد المجتمع التقليدي المتخلف، فهو الذكورية والتواطؤ ضد المرأة عمومًا، والمرأة الثائرة المتمرِّدة خصوصًا. كل هذه الاستبدادات تخطِّئ المرأة وتجرِّمها بغير حق! لذا فإن نظام الأسد في الحقيقة، لا يواجه المجتمع التقليدي بحد ذاته بما ينطوي عليه من مفاهيم بالية، بل يواجه الثورة فيه والثائرين، ولمّا كانت الثورة على نظام الأسد عاتية إلى هذا الحد المأسوي المرعب؛ فإن الثورة على القيم والتقاليد البالية أعتى. هنا يمكن القول إنه لا ثورة حقيقية من دون تحرُّر المرأة وانعتاقها من شتى صنوف الغبن والظلم والقهر. في الفيلم الوثائقي المذكور: النظام اغتصب “علوى”، وأبوها -بحسب ما تظن المرأة المتحدثة- قتلَها اتقاء العار!
***
في مجابهة المعنى الذي تنطوي عليه المرأة ها هنا بكونها إنسانة أولًا وثائرة ثانيًا، باللامعنى المسدود؛ يجري عادة “تذويت” المرأة التي تعرَّضت للاغتصاب، واختزالها بمحض سمة محددة قاطعة ونهائية، أي سمة “مغتَصَبة”. “التذويت” عمومًا من شأنه تأطير الذات وتذويبها في شيء محدد ومعزول، وقمع كل إمكانية أخرى من إمكانات الصيرورة. تذويت المرأة بـ “المغتصَبة” يشيِّء المرأة، ويجعلها “تجتاف” (من الجوف) ما ذُوِّتت به، وتنظر إلى نفسها بعين “الآخر” المحتقِرة، أو تلك الشفوقة بالمعنى السلبي الذي يسهم في تطويق عالم الإنسان الواسع والحر إلى محض “يا حرام”!
“ما أسعد مَن كانت أفكاره كطيور القبّر/ تنطلق في الصباح لتتابع طيرانها حرة إلى السماوات”*.
كل جذر فلسفي يتولّد من فكرة، وفكرة المكاشَفة والبوح في الفيلم الوثائقي نفسه، من شأنها ربما ليس فقط نزع الخوف من دواخل السيدات الشجاعات، ذوات البنيات النفسية المختلفة، ولا فقط مواجهة المشكلة عبر الكلام الصريح عنها على الملأ، وربما لا تشكل فقط ردًّا على كل سلطة مستبدة، سياسية، عسكرية، دينية، اجتماعية/ ثقافية، فكرية، عبر فضح ممارساتها، بل أيضًا هي بكل بساطة، بمثابة استئناف الحياة بفلسفة جديدة هي فلسفة مكاشَفة وبوح تحاول الخروج من المأساة لتواصل -في معنى ما- الكفاح الثوري بوصفه اختبارًا جديدًا، يقول لا للاختبار العتيق. تجدر الملاحظة هنا أن أيًا من السيدات المتكلمات لم تُظهر ندمًا حيال تظاهرة قامت بها، أو إسعاف مارسته، أو رأي سياسيّ أبدته، بل كنّ معتزّات بما قمن به ودفعن ثمنه غاليًا، حتى إنّ إحداهن، حرصت على إظهار جانب يجري تقليصه أو تقويضه لصالح سمة المعتقَلة “المغتصَبة” فحسب، وقالت بافتخار: “كلنا كنا جامعيات ومثقفات”. وكأن الحضور العلمي هنا لا يكون ممكنًا إلا وهو يُقارَن بالحضور البربري الوحشيّ الذي يدمّر، بالغريزة العدوانية، “الموضوع/ الشيء” الخارجي ويتملّكه داخليًا.
تبدو امرأة أخرى في الوثائقي ذاته، كأنها في حلّ من مقارنةِ ذكورية عدوانية متوحشة، برجولةٍ حقّة، تشكّل لها، على المستوى النفسي، شكلًا من أشكال الأمان تستحضره كلّما أمعنت الذكورية المتوحشة توحّشًا فيها، أعني تلك المرأة التي ما انفكّت تستحضر أباها الذي كان يحبّها ويدلّلها، كما قالت، وكان يقول لها دومًا: “إنتي حتصيري شغلة كبيرة، بس حتتعبي. ولكن رح تتغلبي على التعب”، ثم يكمل ناصحًا إياها: “كل ما وقعتي قومي أقوى”. تردف المرأة: “كل ما كنت مر بصعوبة أو مشكلة حس أبي بجنبي وعمقلي قلتك هذا من زمان رح تقومي أقوى”. “كنت حس خيال طلع ورجع أبي بجنبي، وعلى طول كان هذا يخليني دافع وإرجع أقوى وإرجع إمشي من جديد”. “المشي” الذي تحكي عنه تلك السيدة هو بالضبط ما تعنيه الصيرورة، والممكنات اللامتناهية المضادة لـ “التشييء” والـ “تذويت” الذي يحنّط المرأة التي تعرَّضت للاغتصاب في محض “مغتصَبة”. المرأة نفسها، وخلال رصدها لحالها أثناء الاغتصاب، تدنو كثيرًا مما يقوله علم النفس عن انفصال العقل أثناء تعرّض المرء للتعذيب أو الاغتصاب، وكأنّ ما يحدث، يحدث لكائن آخر. ينفصل العقل هنا كنوع من الدفاع وحماية البقاء. تقول بصوت يرتجف: “حسيت فكري مو لجسمي. روحي مو لجسمي. جسمي مو لروحي. روحي بمكان، جسمي بين إيدين وحوش. فكري بعالم آخر. في شي عبينفصل، كل شي انفصل عن بعضو، فكري وذكرياتي انفصلت عن جسمي. روحي غادرت جسمي”. هذه المرأة التي تحدثت عن نفسها في البداية كجامعية، بفرح وشغف، قالت إنها كانت صغيرة عندما طرحت السؤال الآتي: “نحنا إسمنا جمهورية ولا مملكة؟!”. هذا السؤال هو أصل من أصول الثورة التي اندلعت عام2011 في سورية.
***
في نهاية الوثائقيّ، عبَّرت جميع السيدات عن سخطهن على عدم تحقق العدالة في سورية: “رح ينعرض الفيلم وكل واحد يقوم من على طاولته، وينسى موضوعنا بعد ما يزعل شوي”. وخاطبت إحداهن مخرجة الفيلم ربما، معبِّرةً عن سخطها على الشكل الآتي: “ما تقليلي أمم متحدة. ما تقليلي جنيف. ما تقليلي حقوق الإنسان”. ثم تابعت: “يا نساء الغرب بتعرفو شو معنى الأنثى، تفضلوا صرخوا صرخة وحدة وطالعولنا النساء المعتقلات بسورية”. غير أن الكلام الأخير، يحتاج ربما إلى وقفة نقدية وإلى إنماء جدليّ، إذ إنه ناجم على ما يبدو، عن صورة نمطيّة أو حكم مسبق، حيال الغرب و”نساء الغرب” وامتلاكهن “المعرفة”. بعض النساء في الغرب لا يعرفن شيئًا عما يدور في العالم. بعضهن لا يعتنين سوى بالحياة الشخصية والعائلية. بعضهن ساذجات ومسكينات. بعضهن عدوّات حقيقيات “للأنثى”، ومشارِكات في ابتزازها (أبغض العداوات وأقساها ربما، هي عداوة المرأة للمرأة). بعضهن يتبنّين ازدواجية لا أخلاقية في المعايير من قبيل ما يحق للنساء الغربيات، ويليق بهن لا يحق للأخريات ولا يليق بهن، خصوصًا الحرية. بعضهن مؤيدات للسلطة القاتلة في سورية. وبعضهن طبعًا إنسانيات ولديهن معرفة حقيقية حول ما يجري في سورية وغيرها من انتهاكات لحقوق البشر، بل يكافحن من أجل إرساء هذه الحقوق في كل مكان، ومحاسبة منتهكيها.
…………………………………………..
* بشير عاني، شاعر وكاتب سوري، ذبَحه وابنه تنظيم “داعش” الإرهابي بتهمة “الردّة”.
* من قصيدة “سمو” لبودلير، ديوان “أزهار الشر”.
علا شيب الدين
المصدر
جيرون