لماذا يتخلف «إصلاحيو» إيران عن مواكبة الاحتجاج؟



«لا ريب في أنّ الشعب الإيراني يواجه صعوبات في حياته اليومية، ومن حقه أن يطالب ويحتج سلمياً. لكن الأحداث الراهنة أظهرت أنّ الانتهازيين والمشاغبين استغلوا الاحتجاجات بهدف خلق المشكلات، وتعكير الأمن، وتخريب الممتلكات العامة، بالترافق مع إهانة القِيَم المقدسة الدينية والوطنية (…) وإنّ أعداء إيران، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وعملائها، شجعوا مثيري الاضطرابات وأعمال العنف».
هذا النصّ لم يصدر عن مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي، ولا عن رئاسة أركان «الحرس الثوري»، ولا حتى عن الرئيس حسن روحاني؛ بل هو فقرات من بيان أصدرته «رابطة رجال الدين المحاربين»، التي يتزعمها الرئيس الأسبق محمد خاتمي، وتضمّ في عضويتها عدداً كبيراً من أبرز رجالات الحركة «الإصلاحية» في إيران. وهذا نصّ لا يختلف، إطلاقاً، عن المنطق الذي اعتمدته السلطات الدينية والحكومية الرسمية الإيرانية؛ في أنّ من حقّ الشعب أن يحتج وينتقد، ولكن دون شغب وتخريب، ودون تحريض من أعداء إيران.
وهذا، في أول المطاف ونهايته، هو كلام الحقّ الذي لا يُراد منه إلا الباطل، وإلا تفريغ الحراك الشعبي من مضامينه العميقة وتأطيره في حدود المطالب البسيطة، أو «المصاعب» التي لا يخلو منها مجتمع؛ أو حتى «إفلاس» بعض المصارف كما في التأويل الذي اعتمده حسن نصر الله، الأمين العام لـ»حزب الله». لكنّ النصّ، من وجهة أخرى، هو البيان الأعلى فصاحة في التعبير عن تخلّف «إصلاحيي» إيران عن مواكبة تحرّك الشارع الشعبي، بل مناهضته عملياً، والاصطفاف خلف السلطة الحاكمة، الدينية والسياسية معاً.
ولعلّ هذا الاعتبار الأوّل، أي المساس بـ»القيم المقدسة»، هو الباعث الأبرز خلف عزوف «الإصلاحيين» عن تأييد التظاهرات الشعبية؛ خاصة وأنّ التعبير غائم وعامّ، ويمكن أن تُدرج في عداده أية قيمة ذات قداسة. الأرجح، من حيث المضمون الفعلي هذه المرّة، أنّ القيمة الكبرى التي يخشى «الإصلاحيون» تعريض الشارع الشعبي بها، إلى درجة المطالبة بإسقاطها، هي مبدأ ولاية الفقيه؛ الذي لم يتجاسر أي إصلاحي، بمن فيهم خاتمي نفسه، على الاقتراب منه، حتى في ذروة التناطح الشرس مع «المحافظين» الأكثر تشدداً.
والحال أنّ مواقف «الإصلاحيين» لا تخون الشارع الشعبي وحده، بل ترتكب خيانة مماثلة ضدّ تاريخ مشرّف يُنسب إلى رجال الدين أنفسهم، أمثال محمد الطباطبائي وعبد الله البهبهاني وكاظم الخراساني ومحمد حسين النائيني؛ الذين أسسوا حركة «المشروطة» وقادوا ثورة دستورية ضدّ الشاه مظفر الدين، في سنة 1905. ولم تكن مفارقة أنّ رجال دين آخرين ساندوا الشاه، واستحقوا صفة «أنصار المستبدّة»، ولم يتحرّج النائيني في تصنيفهم ضمن فريق «عَبَدة الظالمين» و»علماء السوء» و»لصوص الدين».
كان النائيني وصحبه يستلهمون جمال الدين الأفغاني وروحية «طبائع الاستبداد»، ولكن في ميدان سياسي فقهي شائك هو الإمامة الغائبة ومدى حقّ الأمّة في ولاية نفسها وتشكيل حكومة زمنية عادلة؛ بدل الركون إلى حكومة لا زمنية مطلقة (ومستبدة بالضرورة، لأنها جزء من شعبة «الاستبداد الديني» حسب النائيني أيضاً). وفي أيامهم لم يكن مبدأ ولاية الفقيه قد رأى النور، إذْ ابتدعه الإمام الخميني سنة 1971، حين كان منفياً في النجف؛ وبالتالي فإنّ إقرارهم بحقّ الأمّة في ولاية زمنية، يتناقض تماماً مع صلاحيات الولي الفقيه القصوى.
ليست مفارقة، كذلك، أنّ «إصلاحياً» مثل مصطفى تاجزاده، شارك بحماس في احتجاجات 2009 وسُجن لهذا السبب طيلة سنوات؛ ينأى بنفسه اليوم عن احتجاجات 2018، ويخشى أن تحوّل إيران إلى «سوريا ثانية»! في قلب هذا المنطق ثمة اصطفاف ليس مع «استقرار» إيران تحت راية وليّ فقيه وصفه الشارع بـ»الدكتاتور»، فحسب؛ بل كذلك مع استبداد النظام السوري، ضمناً وقياساً. وهذا، بدوره، ضرب من خيانة أخلاقيات «المشروطة»، ونكران تاريخ إيران الحديث أيضاً.

(*) كاتب سوري


القدس العربي


المصدر
جيرون