‘سوتشي: سياسة العصا والجزرة’
13 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2018
من الواضح أن الروس يحاولون -بشتى السبل- تركيب حلٍ في سورية، يتناسب مع حساباتهم. فمنذ اليوم الأول لتدخلهم العسكري المباشر إلى جانب النظام السوري (30/ 9/ 2015)، اعتمدوا أسلوب استخدام الطاقة القصوى لسلاح طيرانهم، وصواريخهم طويلة المدى؛ بهدف إجبار السوريين الثائرين في مواجهة نظام بشار، على الاستسلام. ولم يلتزموا بأي اعتبارات تفرضها قوانين الحروب؛ إذ إنهم قصفوا الأفران والمدارس والمشافي وقوافل المساعدات والأحياء المدنية، واستمروا بدعم النظام بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية، وبالتغطية عليه سياسيًا في مجلس الأمن، عبر الاستخدام المستمر لحق النقض “الفيتو”، بأسلوب فظ غير معهود.
لقد تمكّنوا من استغلال جفاء العلاقات الأميركية-التركية، وعزوف الناتو عن مساندة تركيا، بعد إسقاط الطائرة الروسية. هذا فضلًا عن دعم الولايات المتحدة الأميركية المستمر لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي”، واتخاذها قوات الحزب المذكور أداة لمحاربة (داعش)، في المناطق التي يبدو أنها، بناء على الإطار العام للتوافق الروسي-الأميركي الذي لم تتضح بعد كل ملامحه، من نصيب النفوذ الأميركي، وهي المناطق التي يحدّها من جهة الغرب والجنوب نهر الفرات، مع بعض الجيوب هنا وهناك، التي ستكون موضوعًا للاتفاقات التفصيلية المستقبلية.
لقد استثمر الروس في كل ذلك، واستفادوا من حاجة تركيا إلى الخروج من أزمة علاقاتها الخارجية مع حلفائها التقليديين، وحتى مع السعودية التي لم تصل العلاقة معها في الملف السوري إلى المستوى الاستراتيجي المطلوب. وكذلك حاجتها إلى تجاوز صعوباتها الداخلية، الأمنية والاقتصادية منها على وجه التحديد، وتجدد دورة العنف بين الحكومة و(حزب العمال الكردستاني). هذا إلى جانب الانقلاب العسكري الفاشل في 15 تموز/ يوليو 2016، وما ترتب عليه من اعتقالات وتباينات مع مختلف القوى السياسية.
كل هذه الظروف وغيرها، ساعدت الروس، ووضعتهم في موقع المستفرد بالملف السوري، مقابل انسحاب أميركي شبه كامل من المشهد المنظور؛ فدعوا إلى مسار أستانا الذي سُوّق بداية على أنه لن يتجاوز دائرة المسائل الميدانية التي من شأنها مساعدة مفاوضات جنيف، لتجاوز الكثير من العقد. ولكن تأكد لاحقًا ما كان متوقعًا منذ البداية، وهو أن الروس كانوا يريدون الاستيلاء على المزيد من المساحات، وإضعاف الفصائل الميدانية، من خلال إحداث الشروخات بينها، وضرب بعضها ببعض؛ وسحب البساط تدريجيًا من تحت أقدام المعارضة السياسية.
لعل طرح الروس مشروع الدستور، الذي كانوا قد كتبوه للسوريين، على من كانوا قد أُخذوا إلى أستانا باسم السوريين، يبيّن مدى إصرارهم على شق مسار آخر، لا يتقاطع مع مسار جنيف الذي تظل مرجعيته، ولو شكليًا، بيان (جنيف 1)، وقرار مجلس الأمن 2254.
إنهم يحاولون بشتى السبل تجاوز عقدة الانتقال السياسي، والقفز من فوق مطلب ضرورة رحيل بشار الأسد. واحترامًا للحقيقة، لا بدّ أن نعترف هنا بأن التوجه الروسي هذا، كان هكذا منذ البداية، حينما اختلفوا مع الأميركيين حول تفسير دلالات وأبعاد وصلاحيات هيئة الحكم الانتقالي. فهم كانوا يرون أن الدعوة إلى تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بموافقة الطرفين، لا تتضمن موضوع تجاوز الأسد. هذا في حين أن مجموعة أصدقاء الشعب السوري، التي كانت فاعلة في ذلك الحين بقيادة الولايات المتحدة، أخذت الموقف المغاير، على الأقل علنيًا، وجوهر هذا الموقف كان ضرورة رحيل الأسد، وتسليم صلاحياته السيادية، التشريعية والتنفيذية، إلى هيئة الحكم الانتقالي.
لكن مع تبدل أولويات الدول المعنية، وانكماش عددها، حتى اقتصرت على المجموعة التي كانت تعرف بـ “دول الكور”؛ وتغيّر المعطيات، لا سيما بعد عملية إسقاط حلب، وجملة الهدن التي كانت في مختلف المناطق، والنقل الكرنفالي لمجموعات المقاتلين، بمختلف ألوانهم وتوجهاتهم، من مناطق محددة إلى مناطق أخرى. وبعد شعور الروس بهيمنتهم الميدانية بالتشارك مع الحليف المنافس الإيراني؛ انتقلوا إلى الخطوة التالية، التي استهدفت بداية تنظيم لقاء عام، الغلبة فيه لأنصار النظام، في قاعدة حميميم، ليتبعه لقاء آخر في مطار دمشق، أو ربما في دمشق نفسها.
ولكن بعد أخذ وردّ مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة، التي ما زالت أدبيًا ملتزمة بمسار جنيف، وبعد أن تبين لهم بصورة أكيدة أن العديد من المترددين والرماديين لن يتجرؤوا على المشاركة العلنية في حميميم؛ تم نقل المكان إلى سوتشي، وأُعيد النظر أكثر في أسماء المرشحين للمشاركة. فهل سيُعقد لقاء سوتشي في نهاية الشهر الجاري، كما رسمَت له روسيا، أم أنه سيُؤجل كما حصل سابقًا؟
إن ذلك يتوقف على طبيعة وتطورات التوافق الأميركي-الروسي. فهل ما زال هذا التوافق، في المستوى العام الذي يحدد مناطق النفوذ، من دون بيان تفصيلات الشكل الإداري، وطبيعة النظام، وهوية الحاكم وفريقه في سورية المقبلة، التي لن تكون بالتأكيد مثل تلك التي كانت، أو تلك التي يُروّج لها نظام بشار وراعيه الإيراني؟
الروس في عجلة من أمرهم، لحسابات داخلية خاصة بهم، وأخرى خارجية تتصل بالرغبة في تحسين المواقع والسمعة. وربما قبل هذه وتلك، حسابات التوجس من المزيد من التورّط، بعد بروز مؤشرات عدة غير مريحة بالنسبة إليهم، وعلى سبيل المثال، يشار هنا إلى الغموض الذي ما زال يلف حقيقة ما حدث في قاعدة حميميم، عشية السنة الجديدة 2018.
ما يريده الروس هو استغلال المعطيات، وإخراج حل مبني على ما استثمروا فيه لسنوات. وكل ما يفكرون في إنجازه عبر سوتشي هو تشكيل لجنة دستورية؛ لكتابة دستور شكلي في ظل نظام مخابراتي-عسكري، ستكون له الكلمة الأولى والأخيرة، وفق تصورهم، في ترتيبات الوضع الجديد. وإلى جانب اللجنة الدستورية هذه، ستكون هناك لجنة خاصة بالانتخابات، المحلية، والبرلمانية والرئاسية، ومنذ الآن يُمهد لشرعنة بشار، مكافأة له على كل القتل والتدمير والتهجير الذي كان.
سيضغط الروس من أجل عقد لقاء سوتشي، وستُشجّع الدول الإقليمية الملتزمة معهم المعارضة بمختلف أجنحتها على المشاركة. هذا في حين أن الأميركيين والأوروبيين سيلتزمون الصمت. ولكن القرار الحاسم هو بيدِ من تعزّ عليهم قضيتهم، ويضعون مصير شعبهم وبلدهم قبل أي اعتبار آخر.
فهؤلاء إذا اتخذوا معًا موقفًا موحدًا صلبًا، ينص على مقاطعة سوتشي؛ فلن يكون -حينئذٍ- للاجتماع الروسي حول سورية أي معني، وإنما سيكون أشبه باجتماعات “الجبهة الوطنية التقدمية”، في أيام حافظ الأسد، الذي كان يتخذ القرارات الصعبة، ويمررها عبر الجبهة، ووسيلته في ذلك السياسة التقليدية المستمرة: سياسة العصا والجزرة.
عبد الباسط سيدا
[sociallocker]
جيرون