أكثرية من الأقليات غير المرغوبة



جاءت تصريحات الناطق باسم القوات الروسية في سورية، بأن الأسد حليف استراتيجي لهم، لكونه ينتمي إلى إحدى الأقليات المرغوب فيها من قبلهم في سورية؛ لتضع التعريف الجوهري، لما يُقصد بـ “الأقليات” من المنظور الروسي للأمور، فهي -بحسب هذا التوجه- مجموعة الأفراد التي تُصفّق لجرائم القصف والتدمير التي ذهب ضحيتها مئات آلاف الضحايا من المدنيين والأطفال، وتُهلل لانتهاك إنسانية مئات الآلاف من المعتقلات والمعتقلين، فهي بالحد الأدنى المجموعاتُ التي ترتضي، من أجل تحقق أهدافها ضيقة المساحة وقصيرة المدى، المنفعية منها والحزبية والطائفية أو القومية، ترتضي أن يُباد الآخرون.

يأتي استخدام هذا التوصيف والتصنيف عاملًا إضافيًا، لإظهار عدم صدقية ادعاءات “حماية الأقليات”، من منطلق مرجعيتهم المذهبية أو القومية؛ إذ إن تلك الحماية مشروطة، بالموالاة للنظم الاستبدادية المفروضة على شعوب منطقة الشرق الأوسط، وكل من يخرج عن هذه الموالاة، تسقط عنه الحماية المفترضة.

يفرض ذلك بالضرورة وجود أقليات أخرى غير مرغوب فيها في سورية، وصفاتها البديهية هي أنها ترفض ما سبق، وتُطالب بالمحاسبة، وتتمسك بالعدالة مسارًا وحيدًا، لتحقيق السلام النهائي والمستدام، بغض النظر عن انتمائها المذهبي أو العرقي، وتضمّ بين صفوفها سوريين ينتمون إلى مختلف الطوائف والقوميات: مسيحيين وعلويين وسريان وأكراد، وغيرهم من المكونات السورية ذات الأقلية العددية.

لكن هذا التوصيف لا يخلو من خطورة كبيرة؛ لكونه لا يوحي ببوادر مساعي بناء دولة علمانية في سورية أولًا، ولكونه يربط جزافًا بين جرائم نظام الأسد وبين فئات محددة، وعلى الأخص منها العلويون والمسيحيون، فبات كل من هؤلاء يحمل قسرًا وزرَ جرائم إبادة، واستخدام أسلحة محرمة بغرض ادعاءات حمايته، في حين أن ذلك يكسر الروابط الوطنية والإنسانية الجامعة، بينهم وبين أبناء بلدهم من الطوائف الأخرى. في المقابل، لا يتردد النظام باعتقال وتعذيب أو اغتيال أي سوري ينتمي إلى هذه المكونات، حين يرفع صوته مطالبًا بحق المواطنة المتساوية على أقل تقدير، وهو ما حصل مؤخرًا (يوم الجمعة 12 كانون الثاني)، في جريمة اغتيال المعارض السوري منير درويش، عضو هيئة التفاوض المقيم في سورية، والذي لم يشمله ادعاء حماية الأقليات، على الرغم من انتمائه إليها.

على من يسعى لعودة السوريين إلى أرضهم، من دون تمايز، ومن دون فتنة مذهبية مسبقة تؤدي إلى خلافات وصراعات طويلة الأمد، عليه أن يفصل بشكل قاطع، بين جرائم نظام الأسد وبين المكونات السورية. وعلى هذه المكونات نفسها، نبذ النظام الذي ضحى بشبابهم وهجّر ملايين من عائلاتهم، عليها أن لا تحمل وزر إبادته للأطفال، وانتهاكه للإنسانية وحرقه للجثامين البشرية في المعتقلات، عليهم إظهار رفضهم لهذه الجرائم، علنًا على رؤوس الأشهاد، وإن كان إظهار هذا الصوت من الصعوبة بمكان، حيث تعاني هذه الأصوات من تضييق كبير على عدة صُعد، منها الدولي ومنها المعارضة السورية نفسها، وأهمها بالتأكيد تضييق النظام وملاحقته لهذه الأصوات المعتدلة التي تكشف كذبه وادعاءاته.

تُشكّل اليوم هذه الأقليات غير المرغوب فيها، أي بالتعريف: الرافضة لجرائم النظام، أكثريةً صامتة على العلن، تفوق بالتأكيد تلك الأقليات المرغوب فيها، وبات إظهار مواقفها وصوتها ضرورة، لإنقاذ ما أمكن من سبل المصالحة بين المكونات السورية التي يعدّ التمسك بوجودها دعمًا للتنوع واستمراريته، في منطقة الشرق الأوسط عمومًا، وفي سورية خصوصًا، في سبيل المحافظة على استقرارها وتوازنها، بعيدًا عن أي انحراف نحو التطرف، ودعمًا لسير المنطقة في مسار التطور السليم.

ترتبط هذه المصالحة، ومعها طرق العودة حتمًا، بالانتقال من نظم حكم استبدادية وسيطرة الأحزاب الشمولية، نحو نظم حديثة تقوم على دساتير عادلة، وعلى احترام القانون وحقوق الإنسان، وإتاحة المناخ المناسب للتأسيس لحياة سياسية، تُمهّد للانتقال التدريجي نحو الديمقراطية، حيث ستواجه النظم الحديثة التعددية عوائق عديدة، سببها غياب هذا المفهوم عن الحياة السياسية، وعدم التأسيس له على صعيد المناهج التعليمية أو التوعية، يضاف إلى ذلك تحسّن في الظروف الاقتصادية، وضمان الازدهار والخدمات التعليمية والصحية للجميع، حيث تعدّ هذه العوامل ذات أهمية قصوى، ولها وزن كبير في تحقيق الاستقرار للحياة المشتركة.


سميرة مبيض


المصدر
جيرون