ماذا تبقى من احتجاجات إيران؟



انتهت موجة الاحتجاجات التي انطلقت أواخر العام الماضي، وعمّت أغلب المدن والبلدات الإيرانية، انتهت في أقل من أسبوعين فقط، مع أنها كانت الأهم والأعنف، بعد سلسلة احتجاجات ضد نظام ولاية الفقيه، شهدتها أعوام 2009 – 2010 – 2011، دون أن تنتهي أسبابها.

تكتسب تلك الاحتجاجات الأخيرة أهميتها، من كونها قطعت لأول مرة مع التيار الذي يدّعي أنه الجناح الإصلاحي ضمن النظام، إذ اعتُبرت حكومة حسن روحاني، الذي أعيد انتخابه قبل سبعة أشهر بنسبة 57 بالمئة من أصوات المقترعين، مسؤولًا مباشرًا عن الأزمة الاقتصادية وتفشي البطالة وغلاء الأسعار وارتفاع الضرائب، كما هي مسؤول مباشر عن استمرار الفساد الذي ترعاه منظومة (المعصومية) التي أسسها الإمام: “آية الله روح الله الخميني”، عام 1979 في إيران.

علمًا بأن الأزمة الاقتصادية ليست عنوانًا هامشيًا في بلد نفطي كإيران، يستحوذ فيه 5 بالمئة فقط من السكان على 95 بالمئة من الدخل، كما ذكرت مجلة (بورغن) للدراسات، وهم من الفئة الحاكمة، كمرشد الثورة وحاشيته وكبار المسؤولين وعوائلهم وقادة الحرس الثوري، الذين اعتاشوا جميعهم على الفساد أو في شركات الإقراض الوهمي التي نهبت أموال الطبقة الوسطى في المدن، قبل أن تعلن إفلاسها، مقابل 95 بالمئة من السكان يعيشون في حالة أقرب إلى الفقر، وبحسب تصريح للنائب في البرلمان الإيراني، حسين علي شهرياري، قبل اندلاع التظاهرات الاحتجاجية بعشرين يومًا فقط، فإن 40 بالمئة من الشعب الإيراني تحت خط الفقر، فيما ترتفع هذه النسبة في بعض المناطق، كإقليم بلوشستان، إلى 80 بالمئة، بحسب المصدر ذاته.

فيما مؤشرات البطالة، وعلى الرغم من وعود الرخاء التي ترافقت مع توقيع الاتفاق النووي عام 2015، ما زالت 12.4 بالمئة، وترتفع هذه النسبة بين الشباب إلى 29 بالمئة، وفق الإحصاءات الرسمية، ويعتقد كثيرون أن نسبة البطالة بين الشباب، ومن ضمنهم الجامعيون وذوي الاختصاص، أكثر من ذلك بكثير، وتتركز هذه البطالة بنسب أعلى أيضًا، في بعض الأقاليم المهملة أكثر من سواها، كالأحواز وبلوشستان وكرمنشاه، على سبيل المثال.

وإذا كانت تلك الأرقام، في أحد وجوهها، نتيجة سياسات الحكومة “النيوليبرالية” التي تسعى للتنمية، من دون دعم الطبقات الشعبية، وتنمية قدرتها على الدخل والاستهلاك؛ فإن الوجه الآخر لهذه الأرقام يكمن في هيمنة سياسات التوسع الخارجية، التي استنفدت الجزء الأكبر من ميزانية حكومة روحاني للعام الجديد، في دعم الحرس الثوري ونفقات الحروب الخارجية وبرنامج الصواريخ الباليستية الإشكالي.

كانت هذه المسألة مثار انتقاد المتظاهرين في إيران، واستنكارهم هدر العوائد النفطية، في حروب خارجية وفي تمويل الميليشيات الشيعية، وتنفيذ استراتيجيات تصدير الثورة التي أرسى مبادئها الإمام الخميني، لذلك رفع المتظاهرون شعارات: “لا غزة ولا لبنان.. روحي فداء لإيران”، و”اتركوا سورية… واهتموا بنا”.

هذه الاستراتيجية القائلة بتصدير “الثورة الإسلامية”، تفترض بداهة أن تكون المنطقة العربية وبلاد المسلمين هي مجال تجارتها الجديدة، وإيصال صادراتها طائفية الطابع؛ ما شجع صدام حسين، بعد انقلابه على الرئيس أحمد حسن البكر عام 1979، على البدء عام 1980 بحرب استباقية ضد إيران، استمرت ثماني سنوات، وكانت حصيلتها مليون ضحية مناصفة بين الطرفين، وضعفهم من المعاقين وحالات العجز الدائم، فيما قدرت الحكومة الإيرانية الأضرار المالية للحرب على الاقتصاد الإيراني فقط بنحو 450 مليار دولار، شملت الأضرار التي أصابت البنى التحتية والخسائر من فاقد الإنتاج، دون احتساب النفط، والذي يمكن له أن يضاعف الرقم السابق.

وهذا يعني بداهة أن حروب الملالي السابقة والمستمرة، لتصدير ثورتهم الإسلامية، هي سبب الكارثة الاقتصادية القائمة، بل المتضخمة باستمرار. وبالرغم من نجاح النظام في احتواء الاحتجاجات المضادة وقمعها، لكنه ما زال عاجزًا عن إيجاد حلول لأسباب اندلاع تلك الاحتجاجات، أو لمشكلات الإيرانيين، ومشكلات المنطقة المتداخلة مع بعضها، وليس الموضوع في الأرقام الاقتصادية، بقدر ما يطال استمرار تدفق جثامين لضحايا مشاريع تشييع المنطقة، جثامين الذين قتلوا في سورية أو اليمن وسواهما، وهي مسألة كانت -وما تزال- مفصلية، في فهم النظام الثيوقراطي ومشروعه الطائفي للتمدد في المنطقة، عبر التبشير وإنشاء الحسينيات وتشييع الآخرين، أو عبر الحروب التي يمكن أن تفرض بالقوة؛ ما لم تستطع الإغراءات المادية والدعاوى الأيديولوجية أن تفرضه.

الأخطر من كل ذلك أن تلك السياسة الإيرانية وضعت شعوب المنطقة، أمام تناقضات وحروب دموية على أسس عرقية أو طائفية، مما سبب تخريبًا للنسيج الاجتماعي وتنمية عصبيات ما دون السياسية، تجلى ذلك بشعارات: الدفاع عن العتبات المقدسة، ولبيك يا حسين، وتسميات زينبيون وفاطميون، أساءت لتلك الأعلام الإسلامية ووظفتها بشكل سيئ، أوصل المنطقة ككل إلى ما نشهده اليوم من خراب ودمار وإرهاب وهدر لكرامة البشر.

يبدو النظام الإيراني الآن، بشقية المتشدد والإصلاحي، نظامًا مغلقًا ديكتاتوريًا وثيوقراطيًا، يمسك بالدولة العميقة ويختزن المعصومية في عباءته، لذلك هو لا يملك أي إمكانية على إصلاح ذاته، ولا يملك القدرة على الانفكاك عن مبرر بقائه، عبر حروب التوسع الطائفي وتصدير الإرهاب، في مواجهة الشيطان الأكبر الذي يتحول بسهولة إلى لبوس أي عدو من أميركا إلى دول الخليج العربي، أو حتى إلى المطالبين بالحرية في سورية أو داخل إيران أيضًا، فكل من لا يعترف بولاية الفقيه يجب شيطنته واعتباره عدوًا.

انتهت الاحتجاجات في إيران، بعدما أحرقت صور المرشد الأعلى للثورة علي أكبر خامنئي، والأمام الخميني، بكل ما يمثلانه من هالة طقسية ودلالة دينية، اشتغل عليها النظام خلال أكثر من ثلاثة عقود، لكن أسباب هذه الانتفاضة ما زالت باقية، في صلب الدولة والمجتمع الإيرانيين، وكذلك نتائجها باقية أيضًا، وهذا يغذي الأمل باحتمال اندلاعها في أي وقت، كما نشهد اليوم في تونس، والتي تشكل مؤشرًا بسيطًا على حتمية التغيير وإمكانية إسقاط هذه الأنظمة، مهما اشتد القمع وتنوعت أدواته وأساليبه، فالأنظمة تزول وتبقى الشعوب دائمًا، ولن تستطيع أي ديكتاتورية دينية أو سواها مصادرة المستقبل، والتاريخ يخاتل كثيرًا، ولا يسير بخط مستقيم، لكنه يتقدم دائمًا.

ويخطئ كثيرًا من يعتقد أن متابعة السوريين لما جرى في إيران، ولما سيجري مستقبلًا، هي مجرد فضول أو ترف إعلامي أو ثقافوي من نوع ما، فإيران هي الصانع الأكبر للخراب الذي تشهده كل دول المنطقة، وانقسامات شعوبها عموديًا. وإيران لاعب مركزي ومصدّر للإرهاب ولكل حروب المنطقة التي يعتبرها نظام ولاية الفقيه مجاله الحيوي، ولو انتهت أي منها، بغض النظر عن نتائجها؛ فلن تكون مصيرية على مستقبل النظام الإيراني، لكن أي تغيير في هذا النظام سينعكس على كل أدواته الإقليمية والطائفية، التي ستنهار بانهيار المركز المحرك لها، لذلك نستطيع القول إن الاحتجاجات انتهت، لكن الأمل باقٍ.


أنور بدر


المصدر
جيرون