on
الأسدية وبس!
يقوم الباحث السياسي والاجتماعي، في كثير من الأحيان، باستيراد أدوات تعينه في بحثه وتساعده في توصيل فكرته، ومن هذه الأدوات “القياس والمقارنة”، ويمكننا القول إن هذه الأدوات المنهجية، بقدر ما تُساهم في فهم ظاهرةٍ ما، تُساهم في تشويهها أو تحريفها.
وصفت في مقالة سابقة “الأسدية”، كأخطر نزعة بربرية في التاريخ، تأثرًا بعالم النفس الألماني (اريك فروم) عندما اعتبر “البربرية” أقسى أشكال النزعات التدميرية في التاريخ البشري، تمييزًا لها عن “الوحشية” الأقل مرتبة، ونعلم أنّ أصل كلمة بربري لم تكن تحمل هذه الدلالات الثقافية اليوم، بقدر ما كانت تعني وصف الإغريق للشعوب التي تتحدث لغة لا تفهمها، ثم استعملت في الفضاء الثقافي الأوروبي كصفة للجماعات المتوحشة والمتخلفة والهمجية.
صفات الجماعات المتوحشة التي يكون العنف وسيلتها وغايتها تتطور حسب العصور والأزمنة، ويمكن اليوم أن نَصِف شخصًا بأنه فاشي أو نازي، رغم أنه لا ينتمي إليهما وقت وجودهما الحقيقي كنزعات مدمرة ومتوحشة وساحقة للإنسان.
مع الثورة السورية ومجابهة النظام السوري، ليس لناشطي الثورة وفصائلها فحسب، بل لكل الشعب السوري، إذ يمكننا القول إن ما جرى هو تطور من ثورة شعبٍ على سلطة إلى حرب السلطة على الشعب، أقول مع هذا التطور؛ بدأت الكتابات تتحدث عن هذا النظام في سياق ثورات الربيع العربي، وتعتمد أسلوب القياس والمقارنة، وهي لا تكاد تجد في هذا النظام سوى كونه مستبدًا وديكتاتوريًا كغيره من أنظمة المنطقة، أو يعمد بعض المثقفين إلى ذم هذه الأنظمة ومن يقوم عليها، وكأنهم على درجة واحدة، هروبًا من التميّز والفرادة في هذا النظام، وتقوم بعض الكتابات على المخادعة، هروبًا من التوصيف الطائفي لهذا النظام، فهؤلاء لا يرون فرقًا بين حسني مبارك والأسد مثلًا! (أعتقد أن حسني مبارك كان لينتحر قبل أن يفكر بتوجيه قواته الجوية لحرق القاهرة).
قال السوريون: “الله، سورية، حرية وبس”، وقال أعداء الشعب: “الله، سورية، بشار وبس”. هذا القيد المعبّر عنه بـ (بس) يختصر حكاية السوريين وعقدة المأساة التي لم تحل.
خجل المثقف يُشكّل عقبة أمام حل عقدتنا في سورية، في التاريخ بشرٌ ينتمون إلى مقدسات مكانية أو بشرية، وقد تسمت باسمهم (محمديون، يسوعيون، بهائيون، علويون…) وفي العصر الحديث، مع عظمة المعرفة وكشف المادة، هناك من يشعر بالانتماء إلى هذا العصر العظيم، فيمكن لنا أن نتفاخر بأننا ماركسيون، هيجليون، سارتريون، فرويديون.
لنعترف أنّ قسمًا كبيرًا من السوريين هم “أسديون”، وهؤلاء الأسديون الذين يرون أنّ وطنهم في الأسد وأنّ البديل (للحرية وبس) هو (بشار وبس)، وأنهم إذا خُيّروا بين الأسد والبلد، فإنهم على استعداد لحرق البلد كرمى لعين الأسد، وإذا كان لهم الخيار بأن يكون لهم وطن بديل عن سورية التي نعرفها، فيا مرحبًا، ما دام الأسد معنا فما المشكلة؟ ما يُميّز الأسديين هو انعدام أدنى منظومة خلقية أولًا، وانعدام الشعور بالانتماء إلى سورية الوطن ثانيًا، هذا الانعدام كان السبب الرئيس لهذه الحالة العدمية التي نحن فيها.
هذه الطائفة الأسدية -مع أنها حديثة الوجود والتكوين مع وصول الأسد الأب للسلطة- فعلت ما لم تفعله أي عصبية دينية أو قومية أو حزبية أو أيديولوجية عبر التاريخ، ولنعترف بأنها نزعة تدميرية لا معنى لأي لاحقة بها، يكفي أن نقول: الأسدية دون تثنية بالبربرية أو النازية أو الفاشية أو الوحشية؛ فحتى الآن، لم يشهد التاريخ جيشًا يُحارب شعبه ويقصفهم بالصواريخ والبراميل ويُهجّر غالبية الشعب.
كل تشبيه ومقارنة يمنح “الأسدية” فرصة الهروب من لعنة التاريخ والأجيال.
الحديث عن التدخلات الإيرانية والميليشيات الخارجية الشيعية أو الميليشيات السنية الداعشية والقاعدية، ومعهما التدخل الروسي، يجعلنا ننسى أنّ شيفرة كل هذه التدخلات الجهنمية هو الأسدية، وأنّ ما كان وما يكون وما سيكون لم يكن ليكون؛ لولا الأسدية، فهي مفتاح خراب الأوطان والإنسان، حتى لكأنّ خلاص البشرية من الأسدية هو خلاص لآخر نزعة شر في الوجود، ولذلك فإن أي حل لسورية يشعرك بأن الأسدية ستكون ضمن هذا الحل، وإن رحلت عائلة الأسد.
(كلهم رحلوا إلا أنت يا كبير) بهذه الكلمات يُعبّر الأسديون، وهم يستعرضون صور الرؤساء (أوباما، حمد، عبد الله، مرسي، ساركوزي…).
هذا الفناء الصوفي الذي يُمارسه الأسديون نحو الأسد لا بدّ حتمًا من أنه سيقودنا نحو الفناء؛ ما لم نُحرر الأسديين من أسديتهم، قبل أن نُحرر سورية من الأسد!
عشرات الآلاف الذين ماتوا تحت التعذيب من شباب سورية، ومئات المعتقلات وعشرات المغتصبات، ما كان ليكون ذلك لولا النزعة الأسدية الحاقدة على شعب سورية، ولذلك ليس أمامنا من خيار سوى نحت هذا المصطلح؛ ليكون عارًا ودرسًا لكل من يستميت ويفنى في عائلة أو عشيرة أو طائفة ضد محيطه وشعبه ومجتمعه، فلا يمكن لنا أن نشم رائحة دولتنا وجمهوريتنا الحديثة دون تثبيت هذا العار، كما صارت معاداة السامية عارًا والانتساب إلى النازية عارًا يومًا ما، ورغم كل هذا الألم الذي سببه الأسديون لشعب سورية، فليس أمامنا من خيار سوى تحريرهم وتمدين أخلاقهم، ليس أمامنا من خيار سوى أن يكون الأسديون بشرًا مثلنا، يدركون معنى الحرية وبس.
الأسدية ليس كمثلها شيء، يجب تثبيت هذا الشيء؛ حتى يعيش أطفالنا دون أسد.
منصور حسنو
المصدر
جيرون