المجتمع المدني مرة أخرى
19 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2018
حُرم السوريون من العمل المدني، ثقافةً وممارسةً، طوال عقود. وما كانوا قد تعرفوا إلا على أطرافه، في ما سبق مرحلة الحرمان العنيف هذه؛ إذ كان يصح الحديث -قبل قيام الحكم التسلطي- عن المجتمع الأهلي بتفرعاته المتعددة. وحورب مفهوم “المجتمع المدني” على أنه دخيلٌ ومستوردٌ، وخلفه تراكمٌ من المؤامرات التي تتربّص بأمتنا وتكمن لها الشرور والنيات السيئة، ولم يصبح ممكنًا تطبيق المفهوم الحديث إلا مع قدوم عهد الوهم والخيبة السريعة، في بدايات الألفية الثانية. وبعد التخوين المرتبط به وبحمولته، واعتبار من ينادي بعودة الاعتراف به وكأنه من أسوأ من يوهن عزم الأمة، جاء الفرج من صاحب الحل والعقد؛ فقد قضت “مكرمةٌ” عُليا بأن هذا التعبير غير موبوء، وبأن هذا المفهوم ممكن التداول، حيث سبق أن أفضى بالكثيرين إلى المعتقل لمجرد الرغبة في إحيائه.
مع بداية الثورة الشعبية، وقبل تحولها إلى مقتلة؛ برز دور المجتمع المدني بوضوح في مختلف المجالات والبيئات. وكان يمكن للبعض أن يعزو شكل الهيئات الشبابية واللجان التنسيقية إلى ترجمة ما، لشكلٍ من أشكال العمل المدني المرتبط بالتوعية والتنظيم والمساعدة والدعم النفسي والإنساني. وعلى الرغم من هيمنة السياسي على المشهد العام، فإن من الصعب أن يُميّز المجتمعُ المدني نفسَه عن الهمّ السياسي، في دولٍ لا اعتراف فيها لا بالمشهد العام ولا بالمشهد الخاص ولا بالعمل السياسي ولا بالعمل المدني. فالتداخلات والتقاطعات -وإن لم تكن محمودة- موجودة، ولا يمكن التخلّص منها إلا في جو صحي ديمقراطي بعيد كل البعد عن حيواتنا في المنطقة العربية عمومًا.
على العكس من بعض النظريات الطهرانية التي جرى التطرق إليها في مقالات سابقة، فلا يمكن الحديث عن مجتمع مدني حيادي، في حالة الثورات أو الاضطرابات أو الحروب، حيث غالبًا ما يكون فيها الطرف المهيمن والمتسلط مسؤولًا عن انتهاكات موثّقة، حتى لا يتطور الحديث باتجاه جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. حيادية العمل المدني في هذا الجو تنحصر إذًا في عمليات الصليب أو الهلال الأحمرين. حيادية نظرية لفقدان إمكانية كلتا الجهتين من التمتع بها في الوضع السوري، لسوء النظر والتعامل معهما من قبل مختلف الأطراف المسلحة التي على الأرض.
ومع تطور المقتلة السورية، وما تمخّض عنها من هجرات مليونية ومآسٍ إنسانية لم تشهدها البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ بدت الحاجة ملحّة إلى انبثاق العمل المدني الذي اعتمد في بداياته على مبادرات فردية وتمويل ذاتي في إطار المتاح، للمساعدة في مختلف القطاعات؛ فكان الإغاثي والتربوي والصحي والتوعوي والإعلامي.. إلخ. ومع تنامي الاحتياجات ودخول المانحين الدينيين والغربيين على الخط؛ صار لزامًا تكوين منظمات متخصّصة في هذه المجالات المختلفة وسواها.
كان التخبّط العملي في البداية رهنًا بضعف الخبرة ونقص القدرة وضغط السيطرة، إلا أنه امتدّ في المسارات اللاحقة والمتطورة من العمل المدني، خصوصًا في دول الجوار السوري، وصار من مميزات بعض المنظمات العاملة. حيث افتقد عديدٌ منها التخصص، وحاول البعض منها التوزّع على ما أتيح له من حقولٍ وجد أن لها تمويلًا، ليس سعيًا وراء المال ولكن لتدوير عجلة العمل المحمّل -نظريًا ومبدئيًا- بالنيّات الطيبة. ولعبت السياسات التمويلية دورًا مهمًا في توجيه الاختصاصات وفي اختيار الحقول، فطورًا يتم التركيز على مسألة العدالة الانتقالية، وطورًا آخر على الإعلام، ومرة تحصل مشاريع التوثيق على الاهتمام، ومرة أخرى يسعى الممولون إلى دعم مسألة حل النزاعات أو البحث في كينونة مسألة التكيّف.
وقد نجحت عدة منظمات مدنية سورية في التخصص وفي حصر أنشطتها في مجالات محددة، في حين فشلت منظمات أخرى، لأسباب متعددة. وجرت عملية الاصطفاء التلقائي في مختلف المجالات في ظلّ معضلات إدارية أحيانًا ووظيفية أحيانًا ومناقبية أحيانًا، وربما كلها مجتمعة في بعض الأحيان.
ما تقوم به منظمات عديدة، في المجال التربوي والصحي والإعلاني والتوعوي والإغاثي.. لا يُقدّر بثمنٍ، في ظل غياب الدولة السورية داخلًا، وفي ظل الوضع الكارثي للملايين من السوريين في دول الجوار، كما في ظل السياسات التمويلية المزاجية والمتقلبة والمتناقصة خارجًا. وفي هذا المناخ، يجري رمي مجمل العمل المدني السوري بتهم شتى، تجاوزت ضرورة الانتقاد والملاحظة والرقابة.
بالتأكيد، إن أمراضًا عديدة أصابت وتصيب العمل المدني، كما تصيب سواه من حقول العمل العام. مساءلة العاملين في هذه المنظمات هي واجب وحق لا ضير فيه، أما الاستهانة بعمل هذه المنظمات بالمجمل، واعتبارها بؤر فساد وإغداق التهم على عمومها، لأن ذلك يجذب التصفيق والإعجاب، ففيه ضررٌ يمكن أن يُقارن باتهامات الحكومات المستبدة للمجتمع المدني، بأنه عميل وينشط وفق أجندات أجنبية.. إلخ.
المجتمع السوري حديثٌ في العمل المدني الذي يحتاج إلى الرقابة المبنية على قواعد واضحة، وهو لا يحتاج إلى أن يكون دائمًا في الموقع الدفاعي والتبريري. أصحاب النيات الطيبة من المنتقدين، وهم الغالبية، يبحثون عن الكمال في العمل المدني، وبعضهم خبِرَه وخرج منه أو أنه أصيب بالخيبة من خلال تجربةٍ ما. لا بأس في ذلك، ولكن المجتمع المدني بحاجة إلى أن نحميه من ازدواجية قاتلة: سلطات مستبدة ومجتمعات مُشكّكة.
سلام الكواكبي
[sociallocker]
جيرون