عن ازدواجيتنا وأمراضنا السورية



كلما اتُخذ قرار أوروبي أو غربي، يتعلق بمسألة اللاجئين، سواء من جهة قبول لجوئهم، أو إدماجهم، أو تطبيق القوانين الخاصة في بلد اللجوء عليهم، وإنْ تعارضت مع ما يسميه البعض “القيم الثقافية والاجتماعية” للاجئين؛ شُنّت حملة شعواء على وسائل التواصل الاجتماعي، وأحيانًا في الإعلام، ضد هذه القرارات “العنصرية”، و”الرافضة للآخر”، و”حقوق الإنسان”.. وغيرها من التهم التي تقال هنا وهناك.

لن نُجادل الأوروبيين وغيرهم في قراراتهم ومدى صحتها من عدمه، فليس هذا هدف هذا المقال الذي يسعى، ليقرأ الازدواجية القائمة في خطاب ردة فعل هؤلاء على هذه القرارات أو غيرها، مع التركيز الكبير على الجانب الاجتماعي، علمًا أن ما قدمته بعض الدول الأوروبية لا يمكن مقارنته بما قدمه العرب والمسلمون مجتمعين لقضية اللجوء وحقوق الإنسان عمومًا، بما فيها تلك الدول التي تمتلك إمكانات مادية تفوق ما لدى العديد من دول أوروبا وغيرها، بل إن هناك دولًا فقيرة تمنح حق اللجوء الإنساني لمن يستحقه، فهل هناك من دولة عربية تمنح حق اللجوء لإفريقي واحد أو صومالي واحد أو.. طبعًا، إذا استثنيا دول الجوار التي تتحكم عوامل كثيرة، في هذا اللجوء الذي يكاد يكون اضطراريًا، وليس مجال نقاشه هنا.

غالبًا ما تتمحور ردة الفعل حول حق إقامة الشعائر الدينية والاجتماعية والثقافية، وبخاصة في ما يتعلق بمسألة الأطفال، والموقف من المرأة وجسدها، وحق ممارسة الشعائر أو المعتقدات وبناء المساجد وغيرها، إذ يتم انتقاد القرارات الأوروبية تحت مسمى الخصوصية الثقافية أو غيرها؛ ما يعني أنه ينبغي احترام تلك الخصوصيات وغيرها، وهذا ما يدفعنا إلى تسليط الضوء على مسألتين:

الأولى أن خطاب الخصوصية الثقافية والاجتماعية هو حق أساس من حقوق الإنسان. ولكن أيضًا ما ينبغي معرفته أن كثيرًا مما يقدمه هؤلاء تحت خطاب الخصوصية، ليس من الخصوصية ولا من حقوق الإنسان بشيء؛ إذ يتم تقديم ضرب الأطفال ومنع النساء من اختيار شركائهن والتصرف بأجسادهن باعتباره خصوصية، فهم من جهة يؤكدون على حقوق الإنسان فيما يخصهم (قبول حق اللجوء)، ومن جهة أخرى يتم التغاضي عنه، حين يتعلق بمسائل الطفولة والأسرة وحق اختيار الهوية الجنسية؛ الأمر الذي يعكس أن حقوق الإنسان -لدى هؤلاء- ليست أكثر من شماعة لتبرير الخطأ، إنها لعبة “ميكافيلية” لا أكثر، نحن معها حين نستفيد منها، وضدها حين تهدد سلطتنا ومركزنا الاجتماعي. ولم يدرك هؤلاء بعد أن حقوق الإنسان لا تتعلق بالشأن السياسي فحسب، بل هي منظومة ثقافية وقيمية قبل أي شيء آخر، بمعنى أن الانتماء إليها يعني، بالضرورة، رفض كل الممارسات والأفكار والتقاليد التي تتعارض مع حرية الاختيار والفكر والتفكير، وحق الإنسان في أن يسيّر حياته وفق معتقداته، لا أن تأتي سلطة ما، أي سلطة، سواء أكانت عائلة أم قبيلة أم دين..، لتحدد له ما يكون وما لا يكون.

الثانية تتعلق بالبيئات الاجتماعية والثقافية التي أتى منها أغلب هؤلاء المنتقدين، إذ لا بد من سؤال هنا: كم يتم احترام حقوق “المختلفين” في بيئات هؤلاء الاجتماعية، ونعني بذلك الحقوق نفسها التي يطالب بها هؤلاء في بيئات غيرهم (الأوروبية)؟ وهل يمكن لهذه البيئات أن تعطي الحقوق التي تطالب بها في بيئات الآخرين، لآخرين في بيئاتها هي؟ وهل يدافع هؤلاء المنتقدون عن حق الآخرين بممارسة خصوصياتهم الاجتماعية والثقافية في البيئات التي قدموا منها، كما يطالبون هم الآخرين باحترام خصوصياتهم؟ هل يمكن -مثلًا- أن يُسمح لأجنبي أن يمارس حق تقبيل حبيبته في شارع مدينة عربية، باعتبار أن هذا خصوصية ثقافية له؟ فما بالك بحقوق أخرى؟

هنا أيضًا، تكمن ازدواجية أخرى، والمفارقة أنها معاكسة تمامًا للازدواجية السابقة، أي يتم منع الآخرين من ممارسة ما يعتقدون أنه صواب أو حق ثقافي أو اجتماعي، في البيئات العربية، تحت مسمى احترام الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للبيئات التي تحتضنهم، إذ على الغربي أن لا يأكل في شارع مدينة عربية، في شهر رمضان مثلًا، احترامًا لمشاعر أبناء هذه المدينة، في حين أنه لا يجوز للعربي أن يتوقف عن ضرب أطفاله في بيئات الغرب أو تزويج القاصرات أو السماح للمرأة بامتلاك جسدها احترامًا لخصوصية الغرب الأوروبية التي تمنع ضرب الأطفال..؟

أي ازدواجية هذه؟! يشبه حالنا حال من ينتقد الآخرين، ويسخر من بَلَلهم، فيما الماء يقطر من شاربيه.


محمد ديبو


المصدر
جيرون