on
مركزية القضية الفلسطينية: تشويه المعنى وبؤس التأويل
يعود تاريخ عبارة: “فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية“، إلى الزمن الذي ظهرت فيه تيارات وأحزاب القومية العربية، بعد هزيمة 1948، واشتد التأكيد عليها، في الخطابات السياسية والحزبية، بعد هزيمة 1967. وبتغيير كلمة هنا وكلمة هناك؛ صارت العبارة تحيل إلى مركزية فلسطين لدى التيارات الإسلامية: “الأمة الإسلامية”، ثم مع بروز منظمات المقاومة الفلسطينية، واتساع انتشارها ونفوذها، وتنوع وتباين تياراتها السياسية والأيديولوجية؛ استقرت العبارة عند أكثر الفصائل الفلسطينية، على مفردتين أثيرتين، لهما رنينهما وبريقهما: “فلسطين هي البوصلة“.
من خلال المسار المعقد للحركات السياسية العربية، ومن جرَّاء الالتباس في معنى الشعار/ العبارة، وفي مقاصد المرجعيات التي تتبناه، وبخاصة تلك التي أمسكت بزمام السلطة، في أكثر من بلد عربي؛ تحوّل ذلك الشعار إلى سلاح دعائي إعلامي تتقوى به الحركات، كل من جهة مصالحه، على إدارة التناقضات لمصلحة أطرافه، بين سلطة وأخرى، ولكن الأسوأ جاء حين استُخدم لمصادرة طموحات القوى الشعبية، وضبط تحركاتها، ومن ثم قمعها.
وبذريعة الخطر الصهيوني الإمبريالي، وبتوظيف “القضية الفلسطينية” بالشعارات الفارغة؛ كانت قوانين الطوارئ والأحكام العرفية بمثابة القنطرة التي عبَرها دعاة القومية وفلسطين، لترسيخ الاستبداد والطغيان على الشعوب، ومصادرة حقوقها الاقتصادية والسياسية والنيل من كرامتها الإنسانية. وبعد صعود الإسلام السياسي الشيعي بقيادة الخميني في إيران؛ تم تقاسم “مركزية فلسطين” مع دعاة القومية العربية وفلسطين، إلى أن أصبحت الحصة الأكبر في هذا التقاسم، بيد ملالي إيران.
والحق يُقال: لولا وجود مرجعية/ مرجعيات فلسطينية، تعطي الترخيص، باسم فلسطين، لممارسة أسوأ السياسات من السلطات القائمة، ومن التطورات الداخلية والخارجية؛ لكان من الصعب على سلطات الاستبداد توظيف فلسطين قناعًا لتغطية حقيقتها، وممارسة أبشع الجرائم بحق الشعوب التي هبّت لنيل حريتها. ومصادقة المرجعيات الفلسطينية على هذه الممارسات، باسم “فلسطين أولًا”، سيدفع قضية فلسطين إلى الدرك الأسفل، ويجعل الطريق إلى تحرر شعبها وحريته أكثر كلفة وثمنًا.
نظرَت مرجعيات الفلسطينيين، وعدد كبير من “نخبهم الثقافية”، إلى ثورات الربيع العربي على أنها تخطف الأضواء عن القضية الفلسطينية، ولم يتورع البعض منهم عن القول إن هذه الثورات “مؤامرات” دُبّرت لتبديد الجهد في مواجهة (إسرائيل)؛ فوقفوا ضدها -بالقول والفعل- ودفعوا الشباب الفلسطيني في سورية إلى القتال إلى جانب الطاغية. وفعلوا الشيء ذاته إزاء تحركات الشعب الإيراني المطالبة بحريته. وتوغلوا أكثر حين عدّوا ثورات الشعوب العربية، خاصة في سورية، مؤامرة إمبريالية صهيونية ضد الفلسطينيين، وضد “الممانعة والمقاومة”.
لم يقل لنا هؤلاء “المنظرون”، تحت أي أضواء كانت تقف القضية الفلسطينية، في زمن الربيع العربي؟ أهي أضواء التفاوض مع نتنياهو المحبطة والمتوقفة، أم هي أضواء الصراع بين (فتح) و(حماس) على السلطة؟ أم هي أضواء التفسخ الذاتي داخل أكبر الفصائل، والصراعات الخفية والظاهرة على السلطة، بين دحلان ومحمود عباس. وهل كانت طاقات وجهود وجيوش بشار الأسد وملالي طهران موظفة في خوض المعارك ضد (إسرائيل)، وجاءت ثورة السوريين لإضعاف الحشد القتالي ضد العدو؟!
مفاده أن المرجعيات الفلسطينية، والسلطات العربية، في تعاملهما مع مقولة إن “فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية ولحركة التحرر القومي العربية”، أسقطت المعنى الحقيقي لمركزية القضية، التي أهم وأوضح معنى لها أن الصراع مع العدو الصهيوني شأن الشعوب العربية جميعها، وليس شأنًا فلسطينيًا فقط، ولا هي شأن هذه السلطة أو تلك. فالخطر المتواصل للمشروع الذي بدأته الصهيونية بتأسيس (إسرائيل)، يستهدف، وهو في طريقه للاستكمال، مصالح شعوب المنطقة في الحرية والتقدم والديمقراطية، ويعني ذلك -من ضمن ما يعنيه- أن تقدم شعوب البلدان العربية بتحقيق حريتها وتقدمها، وسيادتها على حاضرها، عبر بناء الديمقراطية، لصنع مستقبلها، هو التجسيد الطبيعي والحقيقي لفكرة أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للشعوب العربية.
كما أن القول بمركزية القضية، لحركة التحرر العربية، يتناقض مع تحويل فلسطين إلى قضية إسلامية-يهودية، كما هو مطروح في برنامج السلطة الثيوقراطية في طهران، التي وظفت الشعارات الديماغوجية لبناء قوى فاشية، مهمتها تدمير النسيج الاجتماعي والثقافي العربي، لمصلحة تقسيم داخلي عمودي على أساس مذهبي بغيض؛ لتتمكن من السيطرة على مقدرات العرب، وغزو بلدانهم من أجل وهمِ “الإمبراطورية الفارسية الشيعية”. ولا تكمن المشكلة الأخطر في التأويل المذهبي والديني لمركزية فلسطين، بل في قبول المرجعيات الفلسطينية والنخب، ومعهما نخب عربية، التعاطي مع الأجندة الإيرانية الثيوقراطية العنصرية، على أنها تقف ضد (إسرائيل)، وتخدم مشروع “تحرير فلسطين”، وهي دعامة للشعوب العربية!
على خلفية تلك المزاعم، وفي نسق متكامل من الدعاية الظلامية الاستبدادية؛ جرى تزييف طبيعة القضية الفلسطينية وأبعادها، ووضعها في مكان نقيض لمكانها الحقيقي، وصولًا إلى توظيفها لمصالح الطغم الحاكمة، والقيام بالتحشيد والتجييش عبر الميليشيات السوداء الظلامية، وعبر “الحرس الثوري” الإيراني لقتل الشعوب العربية والتحكم بمقدراتها وتخريب مستقبلها. وفي تدقيق بسيط في هذا الأمر؛ يتبين أن ما تقوم به قوى الظلام والاستبداد يتوافق مع البرنامج الصهيوني لتدمير قدرات بلدان المنطقة، ويوفر على (إسرائيل) الكثير من الإمكانات المادية، ويمدها بالمبررات اللازمة، والدائمة، لتسويغ مشروعها العنصري والعدواني في أوساط الرأي العام العالمي.
أختم مذكرًا بما طرحته الصهيونية، قبل إنشاء (إسرائيل)، وهي تسعى لكسب مواقف العالم الغربي، حين دوَنت (أن ليس للغرب في الشرق أفضل من الغرب نفسه كما هو في إسرائيل)، وبإمكان المنظرين الإسرائيليين اليوم أن يقولوا: (ليس لإسرائيل في المنطقة أفضل لإسرائيل نفسها، من دور القوى الاستبدادية الثيوقراطية المذهبية). وهنا تصبح القضية الفلسطينية، من أجل العمل القويم لحلها لمصلحة شعوب المنطقة ولمصلحة الشعب الفلسطيني، بحاجة إلى عمليتَي تحرير: تحرير اسمها وراياتها من مختطفيها (وذلك شرط لازم للتحرير الثاني)، وتحريرها من محتليها. وطالما هي مختطفة وموظفة لمصالح الاستبداد والظلاميين؛ فلن يكون أفق تحريرها من المحتلين ممكنًا.
مصطفى الولي
المصدر
جيرون