خراب الكائن السوري
4 شباط (فبراير - فيفري)، 2018
لا يمكن قياس ما يحدث للمعارضة السورية من هزيمة، بأي تجربة من التجارب التي راقبناها، سواء منذ انطلاق الربيع العربي أم قبله، من خلال رصد أداء المعارضة العراقية إبان حكم الرئيس الأسبق صدام حسين، فمن المؤكد أن ما مرّت وما تمر به المعارضة السورية هو انهيار كلي وانعدام ثقة، ليس بينها وبين الشارع الذي تقول إنها تمثله فقط، ولكن بينها وبين داعميها أيضًا، حتى تحولت من خصم سياسي لنظام دمشق، كما يفترض، إلى إحدى وسائل بقائه، بل يمكن الاستطراد والقول إنها تحولت إلى أداة في يده يحرّكها كيفما يشاء. ونحن هنا لا نتحدث عن المعارضة الداخلية التي تتهم أصلًا بأنها مصنعة محليًا، وأنها تتلقى أوامرها من أجهزة المخابرات التابعة لنظام دمشق، لكن نقصد تلك المعارضة الخارجية التي تشكلت تباعًا، عقب اندلاع الثورة السورية ربيع العام 2011، إذ لم تكن معظمها موجودة من قبل، بل إن شخصيات بارزة فيها كانت جزءًا من النظام وحزب البعث الحاكم، وقد أعلنت انشقاقها عنه والالتحاق بركب الثورة. وقد التقت كلتاهما، داخلية وخارجية، مؤخرًا في مؤتمر سوتشي، لتقدّما صورة واضحة عن مدى الهزال الذي وصلتا إليه، ولتبرهنا بالدليل القاطع على أن الخلل الكبير الذي تعرضت له سورية، خلال السنوات السبع الماضية، لم يعد الشفاء منه سهلًا، وهو خلل لا يتعلق بالمعارضة والنظام فقط لكنه يتجاوزهما ليشمل كافة شرائح المجتمع السوري، ويمكن رصده بدءًا مما سمي بطائرة سوتشي تلك التي حملت ما قيل إنهم ممثلون عن شرائح مختلفة من المجتمع السوري، وبدا بينهم فنانون وصحفيون، وهم يُحملون في رحلة سياحية، هكذا بدا من خلال وجوههم الفرحة وغنائهم، فيما على الأرض يستوطن الخراب في كل بقعة من الجغرافية السورية التي تقبع كلها تحت أنواع شتى من الاحتلالات، شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا، ثم تلك الصور التي تم التقاطها لبعض المعارضين البارزين، سواء في مطار سوتشي أو في أماكن أخرى، وهم يظهرون لا حول لهم ولا قوة، جيء بهم ليكونوا أشبه بـ “كومبارس” صامت في فيلم سينمائي رديء، كاتبه ومخرجه ومنتجه ليسوا سوريين.
عكست كل تلك المشاهد المتلاحقة خلال أسبوع واحد مقدارَ الخراب الذي وصلنا إليه، والذي يستوجب التفكير به عميقًا، قبل الحديث عن انتصار الثورة على النظام أو انتصار النظام على الثورة، لأن الاكتفاء بالقول إن الحرب تفعل أكثر من ذلك بكثير، قولٌ يجافي المنطق والواقع، لأن تواريخ شعوب غيرنا مرت بما مررنا به وربما أصعب، لم تحوّل تلك الشعوب إلى ما وصلنا إليه، من تفكك وانهيار في البنية الداخلية والخارجية، لا يتعلق الأمر بالعمران بطبيعة الحال، لكنه يتعلق بالإنسان الذي تفكك، ودون أن يلاحظ هو نفسه ذلك التفكك، فهو ما زال مصرًا على أن السوريين حملة تاريخ حضاري عريق، وهم قادرون على استعادة “أمجادهم” واستعادة حياتهم المشتركة بسهولة، بمجرد زوال ذلك الحدث الطارئ في تاريخهم، النظام من وجهة نظر جمهور الثورة، والمؤامرة الكونية وفق أدبيات النظام وجمهوره، إذ إن مثل هذا الكلام كان سيكون صحيحًا ربما خلال السنتين أو الثلاث سنوات الأولى، لكنه الآن ابتعد كثيرًا، وصار الخراب جزءًا لا يتجزأ من العقلية السورية، يعكسه ذلك الانقسام الذي حدث مؤخرًا حول العملية العسكرية التركية على مدينة عفرين السورية، إذ لم يتأخر كثيرون عن إعلان تأييدهم لتلك العملية كونها تستهدف الأكراد، ضاربًا بعرض الحائط ما يقوله هو نفسه عن سورية لكل أبنائها، ودون أن نتحدث طبعًا عن أولئك الذين يُشاركون الجيش التركي في عمليته العسكرية، والذين يعلنون أنهم يحملون حلم الثورة السورية، لنصل أخيرًا إلى تبرير ما قيل إنه قيام بعض المقاتلين بالتمثيل بجثة مقاتلة كردية قرب عفرين السورية.
على الطرف الآخر، سنرى بسهولة تلك الشماتة خلال مشاهدة عمليات التدمير الممنهجة التي تقوم بها القوات الروسية والميليشيات الإيرانية لمدن وقرى سورية هنا وهناك، حتى إن الصوت الأكثر علوًا في الطرف الآخر سيكون دائمًا: فليذهبوا إلى الجحيم فهم خونة، من يُقال عنهم خونة في هذه الحكاية البغيضة هم سوريون، بعضهم لا علاقة له على الإطلاق لا بثورة ولا بنظام.
هكذا يبدو المشهد السوري، وأي كلام اليوم عن احتمالات الخروج من هذا النفق المظلم، دون عمل فكري وثقافي مكثف، هو كلام رخيص لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانحدار الأخلاقي، وسوف يؤدي بالضرورة إلى خراب أكبر وأكثر تكلفة، ليصبح ما قاله منذ أشهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن مؤتمر للشعوب السورية، والذي تراجع عنه لاحقًا، حقيقة؛ فالسوريون في طريقهم ليصيروا شعوبًا لا يربط أحدها بالآخر أي رابطة، ويتمنى كل شعب زوال الشعب الآخر كي يعيش بسلام.
أخيرًا، شاركتُ منذ فترة في ورشة عمل لصالح مجلة (قلمون) تُناقش الإعلام السوري بين مرحلتين، وقد ترددت كثيرًا في الإجابة على السؤال الأخير، هل تفترض أن من يخسر معركة الإعلام يخسر معركة السياسة؟ أمّا سبب ترددي فهو عدم قدرتي حقًا على استخدام مفردة الهزيمة، وعدم استعدادي للاعتراف بأن الثورة يمكن أن تهزم، فالثورات -وهكذا تعلمنا من التاريخ- لا تُهزم، لكني كتبت إننا هزمنا في المعركة الإعلامية نعم للأسف. وأظن أن علينا اليوم أن نعترف أن ثمة هزيمة أخلاقية كبرى، وعلينا أن نبدأ البحث في طرق معالجتها، بل إن علينا أن نثور على عبارة “أن الثورة لا تخطئ أبدًا”، فالثورات لم تكن في يوم من الأيام معصومة عن الخطأ، والسكوت عن الخطأ الثوري ليس فضيلة، بل خطأ أكبر سيقودنا جميعًا إلى الهاوية.
ثائر الزعزوع
[sociallocker]
جيرون