الأكراد والقوى العالمية: علاقة مضطربة تاريخيًا



إنّ تاريخ الشعب الكردي يتميز على نحو ملحوظ بعلاقاته المضطربة مع القوى العالمية. في العديد من المراحل، كان الأكراد مدعومين، سياسيًا وماليًا وعسكريًا، من قبل الدول الأجنبية، كوسيلة وأداة لمواصلة مصالحها (الدول الأجنبية) الجيوسياسية، في منطقة الشرق الأوسط، ثم يجري التخلص منهم على الفور بعد تحقيق تلك المصالح. وبتقدم الدبابات التركية في منطقة عفرين؛ يبدو أنّ التاريخ على وشك تكرار نفسه مرة أخرى، مع الأكراد.

في السنوات الأخيرة، كان الأكراد في سورية الحلفاء الأكثر موثوقية، لدى الولايات المتحدة الأميريكية في حربها ضدّ تنظيم (داعش)، وموطئ قدم التحالف الدولي على الأرض. ومع ذلك، لم يُقابَل الغزو التركي لعفرين بمعارضة شرسة من قبل الولايات المتحدة. وعلى الرغم من إعراب مسؤولين أميريكيين عن قلقهم إزاء العملية العسكرية التي يقودها رجب طيب أردوغان، التي من شأنها تعريض “الأهداف المشتركة” للخطر، لم يُتَّخذ أي موقف حاسم ضدّ العملية. ومع أنّ الروس دعموا الأكراد ماليًا وعسكريًا في الأشهر الأخيرة، على أمل أن يكونوا شركاء مهمين في استراتيجية الكرملين، لإنهاء الحرب لصالح الأسد، فقد قام المسؤولون الأتراك بزيارة روسيا، قبل إطلاق عملية “غصن الزيتون”، وتوصلوا إلى اتفاقٍ مع فلاديمير بوتين؛ أدّى إلى مغادرة المستشار العسكري الروسي عفرين، قبل أيام قليلة من الهجوم التركي. بعد كل هذا، تبقى تركيا الحليف الأقوى من الأكراد في المنطقة.

لا يأتي هذا السيناريو مفاجئًا، لأنّ الأكراد أجادوا اختبار مثل هذه المواقف منذ زمن، ويعلمون ما يعنيه استخدامهم واستغلالهم وخداعهم من قبل القوى العالمية. بدأت أقوى الدول في العالم في الاستحواذ على اهتمام الشعب الكردي، منذ بدايات القرن الماضي، وبخاصة المملكة المتحدة. إذ دعم المسؤولون البريطانيون، إبان الحرب العالمية الأولى، وحرّضوا، وحفّزوا “القومية الكردية”، ودفعوا الأكراد إلى الثورة ضدّ الإمبراطورية العثمانية واعدين بمنحهم دولة مستقلة. وتُرجم هذا الوعد بصياغة رسمية في (معاهدة سيفر) في عام 1920، الموقَّعة من قبل دول الحلفاء والإمبراطورية العثمانية. قسّمت المعاهدة الإمبراطورية العثمانية إلى دويلات قومية وإثنية، وتضمنت إنشاء “دولة كردية” مستقلة. ومع ذلك، بقي مصير “الدولة الكردية” معلّقًا قيد أدراج سيفر. بعد ثلاث سنوات فقط، وقّعت المملكة المتحدة على معاهدة جديدة في (لوزان) مع السلطة التركية الجديدة، لتضع بذلك حدًّا لحرب الاستقلال التركية. ضحّت المملكة المتحدة، مقابل توقيع معاهدة سلام مع تركيا، بحلفائها الأكراد، وذهب مشروع دولتهم في مهب الرياح، بعدما تناثر الشعب الكردي في 4 بلدان مختلفة. ومن هذه الخطيئة، اندلعت القضية الكردية إلى يومنا هذا.

لعبت الولايات المتحدة دورًا بارزًا في لعبة الدعم/ الخيانة هذه. في سبعينيات القرن الماضي، قامت الولايات المتحدة، بالتعاون مع شاه إيران محمد رضا بهلوي، بتسليح التمرد الكردي ضدّ نظام البعث في العراق. ولكن بعد اتفاقية حل النزاع الحدودي بين العراق وإيران، والتي عُرفت باسم (اتفاق الجزائر) في عام 1975، توقف الدعم الأميركي والإيراني على الفور بخصوص المسألة الكردية؛ في المقابل قُمع الأكراد الذين هجّرتهم وعود حلفائهم، بوحشية من قبل النظام العراقي. وفي عام 1988، كانت الولايات المتحدة تدعم نظام صدام حسين ضدّ ما أصبح لاحقًا “جمهورية إيران الإسلامية”؛ حافظت الإدارة الأميركية على دعمها لبغداد حتى خلال “مذبحة الأنفال”، حيث راوح عدد الضحايا وقتئذ بين 50 ألف و100 ألف كردي، قُتلوا جميعهم على نحو منهجي من قبل الجيش العراقي. وبعد سنوات قليلة، تحوّلت الولايات المتحدة إلى حليف رئيس لأكراد العراق، دعمَت تمردهم ضدّ بغداد، وأمّنت منطقة حظر جوي في شمال العراق (مناطق الأكراد)، لمنع الطائرات العراقية من القيام بحملات أخرى ضدهم. للأسف، لم يكن الموقف الأميركي مع الأكراد نابعًا من اعتبارات إنسانية تجاههم، بل يعود ذلك إلى حقيقة تحوّل صدام حسين إلى عدو جديد للولايات المتحدة. هذه أمثلة قليلة تُظهر الموقف الأميركي المتغير تجاه الأكراد، والذي تحكمه المصالح الجيوسياسية البراغماتية دومًا.

يبدو أنّ الأكراد في عفرين يواجهون المصير ذاته الذي لاقوه تاريخيًا، من تخلي حلفائهم الأقوياء عنهم في المواقف الحرجة. ستتوضح مجريات الأحداث في الأسابيع المقبلة القليلة؛ إذ أعلنت الحكومة التركية أنّ الجيش التركي سيتوجه بعد عفرين نحو مدينة منبج، متقدمًا بذلك في الشمال السوري. بَيد أنّ العديد من القوات الأميركية ترابط في منبج، وقد أعلن مؤخرًا الجنرال جوزيف فوتيل (قائد القيادة المركزية الأميركية) عدم وجود نية انسحاب للقوات الأميريكية من المنطقة. ما يمكن أن يؤدي إلى مواجهة مباشرة بين القوات التركية والأميركية، وهو خيار يرغب البلدان في تجنبه.

الوقت هو الكفيل الوحيد بتوضيح نيّات الولايات المتحدة، أو روسيا، إن كانت قد قررَت التخلي عن الحليف الكردي في شمال سورية، أو إن كانت ستضغط على تركيا، لإنهاء عمليتها العسكرية في الشمال السوري. يبقى الأمل الوحيد للأكراد معلقًا على مدى الاعتماد عليهم، كقيمة مضافة إلى الأهداف الجيوسياسية الروسية والأميركية، لا على وفاء الحلفاء تجاههم كشعب.

اسم المقالة الأصلي The Kurds and Global Powers: a troubled relation الكاتب                        لورينزو باريلّا / Lorenzo Barella المصدر مركز حرمون للدراسات المعاصرة، برنامج الباحثين الزائرين الدوليين ترجمة وحدة الترجمة والتعريب


لورينزو باريلا


المصدر
جيرون