on
الشعر الذي يكسر قفص الغربة
للمرة الثانية تقيم الصحافية Francesca Del Vecchio حوارًا مطولًا مع ابن حمص العدية، الشاعر السوري فرج بيرقدار. كان حوارها الأول حول كتابه (حمامة مطلقة الجناحين) الذي فاز بجائزة مهرجان فيرتشيلي في إيطاليا، أما حوارها الثاني فيتركز على كتابه الثاني (مرايا الغياب) المترجم -أيضًا- إلى الإيطالية، وأيضًا على حياته في السويد. في ما يلي الترجمة العربية للحوار المنشور في صحيفة (المانيفستو) الإيطالية بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير 2018 تحت عنوان (الشعر الذي يكسر قفص الغربة).
– في قصيدة من القصائد الجديدة الملحقة بكتابك (مرايا الغياب) تقول إن عصافير السويد لا تعرف كيف تغني بحزن. هل هذا لأن السويد دولة لا تعرف مفهوم التعذيب؟ هل قصدك أن الحرب فيها جدوى؟
= لا أعرف إن كانت الترجمة الإيطالية استخدمت لفظة “عصافير”. أنا قلت في القصيدة: مسكينة طيور السويد/ لا تعرف كيف تغني بحزن. وقد كان قصدي إظهار المفارقة بين طيور السويد التي اعتادت على الأمان بين الناس، وطيور سورية التي تخاف أو تهرب من الناس. إحدى النكات السورية تحكي أن عصفورًا، أو دوريًّا حسب التسمية المحلّيّة، قال لابنه: يا بنيّ. إذا رأيت إنسانًا ينحني، فتوقَّع أنه سيلتقط حجرًا ليضربك به، فأجاب الدوريّ الابن: وإذا كان يحمل الحجر في جيبه؟ فقال الأب: اذهب يا بنيّ لا خوف عليك، فأنت دوريٌّ ابن دوريّ. أي حذِر ابن حذِر. وحديثي عن أن طيور السويد مسكينة، هو طريقة في التعبير عن الأشياء بنقائضها، هو نوع من السخرية السوداء التي تعتمد على المفارقة. في كتاب لي عن هولندا، حيث قمت بالتدريس مدة سنة، في قسم اللغة العربية في جامعة ليدن، قلت: مسكينة هولندا، لا تستطيع أن تتباهى بوجود سجين سياسي واحد في سجونها. هذا كلام نسميه في لغتنا “المديح في معرض الذمّ”، أي أن نذمَّ شخصًا أو شيئًا، ونحن نضمر المديح.
– ماذا تمثل السويد بالنسبة إليك، بالإضافة إلى كونها مكان الغربة؟
= حالتي في السويد تختلف عن حالات معظم السوريين. لقد دعتني ستوكهولم، في العام 2005، ككاتب ضيف عليها لمدة سنتين. وحين قررت عدم العودة إلى سورية، وتقدمت بطلب لجوئي السياسي؛ قبلوني بلا تردد أو تلكؤ. وككاتب حصلت على حقوق أو امتيازات لا يحلم بها كتّاب سويديو الأصل. والأهمّ أن لي أصدقاء سويديين كثر استطاعوا محوَ مكان الغربة. أنا الآن أحمل جوازَ سفر سويديًا، وليس لدي جواز سفر سوريّ، ولا أريده، فأنا لا أعترف بشرعية نظام الأسد، رغم أن منظمة الأمم المتحدة -وأنا لا أحترمها- ما زالت تعترف به وبالوثائق التي يصدرها مقابل مبالغ طائلة من الدولارات. مكان الغربة بالنسبة إليّ هو “سورية الأسد” لا السويد، فإن رحل الأسد؛ عادت سورية إليّ وعدتُ إليها. الفقر والقهر والأسر في الوطن غربة، واليُسر والكرامة والحرية في الغربة وطن.
– كيف تصف سورية اليوم بعد حرب سبعة أعوام، وماذا سيحدث في المستقبل القريب في رأيك؟
= سورية هي الاستثناء الوحيد، في عالمنا اليوم، الذي نرى فيه قواعد عسكرية أميركية وقواعد عسكرية روسية، وهناك بالطبع قواعد وقوات إيرانية وتركية وفرنسية، وقواعد لـ “حزب الله” اللبناني ولعشرات الميليشيات من العراق وأفغانستان والشيشان وغيرها. إنها حرب إقليمية، بل عالمية مصغَّرة، ومع ذلك ما زال الكثير من وسائل الإعلام يسميها حربًا أهلية. نظام الأسد لا يمتلك أي استقلالية في قراره، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعارضة. مصالح الدول في استمرار الحرب متعددة. بعض الدول يهمُّه عدم انتصار الثورة، لأن انتصارها يمكن أن يهدِّد أمن “إسرائيل”، وبعضهم لا يريد انتصارها خشية أن تنتقل العدوى إلى بلدانهم، وبعضهم ينتظر تدمير كل شيء ليحظى بنصيب مجزٍ من حصته في إعادة إعمار سورية، وبعضهم يريد اختبار أسلحة جديدة أو إظهار القوة التدميرية لبعض أسلحته من أجل تسويقها، والبعض يريد فقط نفوذًا إقليميًا مؤثرًا يجعله رقمًا مهمًّا في معادلات الشرق الأوسط. الآن تحققت معظم مآرب هذه الدول وصار المطلوب رسم نهاية للحرب وتقاسم حصص إعادة الإعمار. لا أطالب السوريين الديمقراطيين بقرار وطني مستقل تمامًا، بل أطالبهم بعدم الرضوخ إلى الإملاءات كلها التي ستُفرض عليهم، أو بمحاولة تحسين تلك الإملاءات، أو جعل شروطها أقل إجحافًا وسوءًا. صحيح أن موازين القوى العسكرية لا تسمح للمعارضة بفرض ما تريد، إلا أنها قادرة على أن لا توقِّع على أي شروط فيها إذلال للشعب السوري ومستقبله. أقول ذلك رغم معرفتي أن حلّ الوضع في سورية بات شأنًا دوليًا لا داخليًا. وضع المعارضة اليوم يشبه وضعي حين كنت في السجن. كان المحققون والجلادون أقوى مني بكثير، غير أنهم لم يتمكنوا من إجباري على الاعتراف بما يريدون، أو على طلب الاسترحام من الطاغية.
– ما هي وجوه السجن العديدة التي تتكلم عنها في كتاب (مرايا الغياب)؟
= أنا أتكلم عن السجن السياسي، الذي هو أحيانًا مجرّد مكان مضادّ، وأحيانًا هو زمن لزجٌ، رجراج، دنِسٌ، سيء النيّة وعاطلٌ عن العمل، وأحيانًا هو مكان لا زمان له، أو زمانٌ لا مكان له، وأفكّر أحيانًا أنه نقيض لما كتبه غاستون باشلار عن جماليات المكان. أعني بشاعات المكان. وهو في بعض جوانبه انتهاك لمعنى الكينونة البشرية، بل للمعنى بإطلاق. هو معاناة الأهالي الذين يقضون سنوات لا يعرفون أأبناؤهم المعتقلون أحياء أم أموات. بعد ستة أعوام ونصف، عرف أهلي أنني حيٌّ وأتيحت لهم زيارتي لأول مرة! والسجن من جهات أخرى جزيرة من الرجال، أو جزيرة من النساء معزولة عن العالم، وهو جحيم دانتي في الكوميديا الإلهية أو ربما الكوميديا الشيطانية. وجوه السجن هي كل ذلك وأكثر.
– لقد واجه ديوان (حمامة مطلقة الجناحين) صعوبات كثيرة قبل النشر. هل تستطيع أن تتكلم عنها؟
= في الحقيقة، أول الصعوبات كانت أنا. حين هرّبته من السجن، ضمن لوحات مرسومة على قطع خشبية، تتضمن كل واحدة حوالي 30 ورقة سجائر، ذكرت في أول لوحة أنني لا أريد أن يُنشر أي شيء من هذه القصائد أو عنها. كنت أخشى إن نُشِر أي شيء منها أن تعيدني السلطات إلى سجن تدمر الصحراوي، حيث لا زيارات ولا أي تواصل مع العالم الخارجي. ولكن صدر الكتاب رغمًا عني أو خارج إرادتي. عرفت لاحقًا أنه صدر في بيروت بالعربية، ثم بالفرنسية بترجمة الصديق عبد اللطيف اللعبي الشاعر والسجين السياسي السابق في مراكش. خشيتي من نشر هذا الكتاب لم تكن في محلِّها، فقد كانت النتائج على عكس ما كان متوقعًا، أعني لعبت دورًا في جعل ظروفي في السجن، وتعامل رئيس السجن ومدير انضباطه أفضل. بالطبع كان ذلك بسبب ضغوط دولية على نظام الأسد، الأمر الذي اضطر النظام إلى الحفاظ على حياتي. أنتهز الفرصة هنا لأقول إنني ممتنّ للصديقة المترجمة إيلينا كيتي على ترجمة الكتاب. قد يكون هو كتابي الأصعب على الترجمة، لأنه مكتوب بلغة عربية كلاسيكية، يصعب حتى على بعض العرب فهمها.
– لقد استفدت، لنشر هذا الكتاب، من دعم الرأي العام والصحافة العالمية، لكنَّ الكثيرين لا يستطيعون أن يرفعوا أصواتهم لكي تصل إلى العالم. ماذا يمكننا أن نفعل للمثقفين الذين لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، ليس فقط في سورية، بل في العالم كله؟
= في ما يتعلق بسورية، أعدّ نفسي مكلَّفًا بالأمر، وأعرف أن هناك أصدقاء كثرًا يقومون بالدور نفسه أو جاهزين للقيام به. على المثقفين الأحرار في كل بلد أن يقوموا بواجبهم في ما يخص مثقفي بلدانهم، فمن كانت لديهم الإمكانية للاهتمام بما هو خارج نطاق بلدانهم، فذلك ما يجعل عالمنا أكثر جمالًا وحبًا وحرية. كل خبر في الإعلام، كل بيان من (أمنستي) و(هيومن رايتس ووتش) وأمثالهما من شأنه أن يحمي السجناء السياسيين من الموت. المعتقل الذي يصل اسمه إلى إحدى هذه المنظمات، ويُعلن في بياناتها أو رسائلها للنظام السوري وأمثاله، سيكون من شأن ذلك أن يضمن حياة السجين. النظام السوري يقتل السجناء الذين لا أحد يعرف عنهم شيئًا أو يطالب بهم. هنا بودّي الإشارة إلى اعتقالنا في فترة الثمانينيات، فعلى الرغم من قسوته التي كانت تصل أحيانًا إلى حدود الموت، فإن الاعتقالات بعد انطلاقة الثورة -أقول الثورة وليس الحرب الأهلية، كما يقول جزء كبير من الإعلام العالمي- صارت في الغالب مشاريع انتقام وتصفيات للمعتقلين، وبخاصة العلمانيون والديمقراطيون منهم.
– كلمة “غياب” متكررة في إنتاجك. ما هو الغياب؟ هل شعرت بأنك كنت غائبًا عن نفسك؟
= مفهوم أو معنى الغياب في أوروبا غيره في سورية. غياب الشمس في أوروبا أو ذهاب أحدهم في رحلة سياحية يمكن أن يُسمَّى غيابًا. في سورية كثيرون يخافون أن يقولوا إن أبناءهم في السجن. يقولون إنهم غائبون. لي أخوَان كانا في السجن لسنوات طويلة، وخرجا قبلي بسنوات. ما من أحد منهما تحدّث عن حقيقة سجنه أو غيابه. كنت أوّل شخص في القرية يتحدّث عن تفاصيل السجن كما هي. لم يكن الأمر بطولة مني، ولكن لأني خرجت من السجن بعد موت الأسد الأب، وكان الناس يجرؤون على سماع تلك الوقائع. الموت هو الغياب الأقصى، والسجن غياب بقدر ما يقترب من تخوم الموت، وقد قاربتُ تلك التخوم مرارًا.
جيرون
المصدر
جيرون