في الطريق إلى سوتشي تقع عفرين

11 شباط (فبراير - فيفري)، 2018
14 minutes

كان من الصعب الوصول إلى استنتاج بوجود صفقة ما؛ لولا تصريحات أحمد طعمة، حول حيازة المعارضة السورية على ثلثي عضوية اللجنة الدستورية المنبثقة عن مؤتمر سوتشي، المؤتمر الذي رفض هو المشاركةَ في أعماله، تحت ذريعة غياب علم الثورة، على الرغم مما تعرض له من إهانة من قبل الحكومة الروسية المستضيفة هو شخصيًا ووفد المعارضة بشكل اعتباري.

يستبعد الكثيرون عن أي تجمع سياسي، مهما كان براغماتيًا، القبولَ بصفقة مع عدوه الوجودي، كما يدعي، ولا سيما بعد حوالي خمسة عقود من الصراع، تعرض خلالها أفراد هذا التجمع لجميع أشكال الاضطهاد، من النفي إلى الاعتقال مدى الحياة حتى الإعدامات دون أي محاكمة، ودون أن ننسى مصادرة الأملاك وعدم منح أولادهم الجنسية السورية بجريرة مواقف الآباء، لكن بعض الوقائع في تاريخ هذا التنظيم تشي بأنه لا يبني استراتيجيته كما يبنيها أي تجمع آخر، فالقيم عنده نسبية ولن تكون أبدًا مطلقة.

بالعودة إلى مجزرة حماة في العام 1982 التي تمرّ ذكراها هذه الأيام، ورغم تجربتهم المماثلة السابقة في عام 1964، وإن كانت على نطاق أضيق، بما عرف بـ “مجزرة جامع السلطان” في المدينة ذاتها، ينكر التنظيم مسؤوليته الكبيرة عن تقديم الذريعة لنظام الأسد بارتكاب المجزرة، ومن ثم إحكام السيطرة على سورية، وفي سبيل التخلص من هذه المسؤولية، تخلى التنظيم بكل بساطة عن أكثر كوادرهم إخلاصًا وولاءً لفكر الإخوان المسلمين في تنظيم الطليعة المسلحة، وأنكر أي علاقة له بهؤلاء المتهورين على الرغم من أن جميع أعضاء الطليعة المقاتلة هم أعضاء في تنظيم الإخوان المسلمين، وعلى الرغم أيضًا مما أكده المرشد السابق للتنظيم عدنان سعد الدين في مذكراته، وفي مقابلته التلفزيونية على قناة (الجزيرة)، بدعمهم ماليًا ولوجستيًا.

في العام 2006 لم يجد الإخوان أي حرج في إعلان تحالفهم مع عبد الحليم خدام المنشق عن نظام الأسد الابن، على الرغم من أنّ خدام كان واحدًا من أهم أركان نظام الأسد الأب الذي ارتكب أفظع الجرائم بحق الإخوان نفسهم، وبحق أهالي المدينة الذين لم يكن لهم أي ذنب إلا أن بعض الإخوان من أقاربهم، وأن المعركة الفاصلة جرت على أرضهم. في عام 2009 انقلب الإخوان على حليفهم خدام، فعلقوا نشاطاتهم المعادية للأسد وانسحبوا من التحالف، بعد ضغوط من حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، الذي كان يتمتع بعلاقات جيدة مع الأسد والإخوان في آن. وفقًا لـ (مركز كارنيغي للشرق الأوسط).

لا يمكن لهذا المقال الخوض طويلًا في تاريخ استراتيجيات الإخوان وتحالفاتهم ومواقفهم المتناقضة مع مبادئهم التي يعلنونها، إلا أنه لا بد من التذكير بموقفين: الأول تأخرهم في إعلان موقفهم من الثورة السورية حتى أواخر شهر نيسان/ أبريل 2011، والثاني موقفهم من (داعش) الذي كان داعمًا في البدايات، ثم ظل صامتًا لوقت طويل، رغم كل جرائم (داعش) بحق السوريين، وصولًا إلى التنديد، بعد أن أدركوا جدية الموقف الدولي من هذا التنظيم الإرهابي، وأن الرهان عليه مجرد ورقة خاسرة، إذًا ليس من المستبعد على تنظيم الإخوان عقد أي صفقة، في سبيل الوصول إلى الحكم والبدء بتنفيذ مشروعه وتحقيق رؤيته لسورية وشكلها السياسي، لا سيما أن هذه الصفقة يرعاها أيضًا حزب العدالة والتنمية التركي حليفه الاستراتيجي.

لا يحتاج المرء إلى أدلة لإثبات براغماتية نظام الأسد، واستعداده لإبرام أي صفقة في سبيل الحفاظ على السلطة، فقد كان من السهل عليه إرسال الرسائل والإشارات إلى “إسرائيل”، عبر قنوات سرّية وأحيانًا علنية، كما فعل عندما دفع رجله رامي مخلوف إلى تقديم تصريحات، حول ارتباط أمن “إسرائيل” ببقاء النظام وحفظه من السقوط، خلال الأشهر الأولى من اندلاع الثورة، ومن ثم لم يتردد هذا النظام بتقديم سورية بالكامل لحلفائه الروس والإيرانيين مقابل دعم سلطته، وهو أثبت أنه مستعد للتخلص حتى من أوفى رجاله في سبيل بقائه. الأكراد بعد إدراكهم لتخلي الجميع عنهم، وفي محاولة لإحراج النظام ودفعه للتحرك، أكدوا عبر الناطق الرسمي لـ (وحدات حماية الشعب) أنهم طلبوا التحالف مع النظام لصد الهجوم، إلا أن الأخير تذرع بعدم موافقة الروس، الروس من جانبهم لم ينفوا أو يؤكدوا ذلك، لأن أي موقف منهم سيسبب حرجًا كبيرًا للنظام أمام مؤيديه، أما ما أعلنه من مواقف وما وجهه من رسائل، حول رفض وإدانة التدخل التركي في عفرين، فهو لا يختلف أبدًا عن إعلاناته الكثيرة بالاحتفاظ بحق الرد على “إسرائيل”، ولا يعدو أن يكون موقفًا موجهًا للاستهلاك الداخلي فحسب؛ إذ أكد الأتراك أنهم أبلغوا النظام مسبقًا بعمليتهم خطيًا ورسميًا. إذًا فالنظام أيضًا ليس من الصعب عليه تقديم بعض الأكراد من حلفائه، كجزء من ثمن البقاء في السلطة، وتاريخه مع السوريين الأكراد بالتحديد، وبالطريقة التي تخلى بها عنهم وطرد قائدهم أوجلان من سورية في سبيل حماية سلطته من التهديد التركي، ما زال حاضرًا في ذاكرة السوريين الأكراد أنفسهم.

بشكل غير متوقع، لم تؤثر العملية العسكرية التركية في عفرين على انعقاد مؤتمر سوتشي؛ إذ انطلقت العملية في توقيت يسبق المؤتمر بحوالي الأسبوع فقط، الأمر الذي كان يُفترض أن يثير حفيظة روسيا أو على الأقل أن يدفعها للطلب من الأتراك تأجيل العملية إلى ما بعد المؤتمر، لكن ما جرى فعلًا أن الروس أعلنوا رسميًا عن تفهمهم للمخاوف الأمنية التركية، وسارعوا إلى سحب عناصرهم من مناطق عفرين، وتوجوا كل ذلك برفض الطلب الكردي بتدخلهم لدى تركيا لوقف الهجوم، بينما استمرت منابرهم الإعلامية العربية غير الرسمية، وخصوصًا على مواقع التواصل الاجتماعي، بانتقاد العملية التركية بموقفٍ يتناغم مع الموقف المعلن لنظام الأسد، كل ذلك أيضًا بينما ظلت خطوات الإعداد لعقد المؤتمر جارية على قدم وساق حتى انعقاده فعلًا، وهذا لا يعني إلا أن الروس قد وافقوا مسبقًا على العملية التركية، لكن بالتأكيد كان هناك ثمن مقابل هذه الموافقة، وكان على الأتراك والمعارضة دفعه، وقد يكون مطار (أبو ظهور) أحد هذه الأثمان.

باستثناء حركة الإخوان المسلمين وبعض التيارات والشخصيات المحسوبة عليها، كان من الواضح أن الشريحة الأوسع من الحاضنة الشعبية للمعارضة، إضافة إلى تشكيلات سياسية وعسكرية وشخصيات معارضة مستقلة ومنظمات وناشطين في المجتمع المدني، يرفضون المؤتمرَ منذ بدء الإعلان عن المشاركة فيه، ووصل ذلك إلى درجة تخوين المشاركين والمطالبة بمحاسبتهم. أمام هذا الرفض الشعبي، كان لا بد من إيجاد مخرج لمشاركة المعارضة والموافقة على مخرجات المؤتمر، المعارضة التي نقصدها هنا هي الائتلاف الوطني لقوى المعارضة السورية، والذي تسيطر عليه وتتحكم بقراراته وبالحكومة المنبثقة عنه حركة الإخوان المسلمين، لن يُغامر الإخوان أبدًا بتصدر المعارضة، وهم فضلوا منذ البداية تقديم شخصيات من المعارضة السورية غير الإسلامية، كواجهة يمكن إحراقها والتخلي عنها بسهولة، بينما يتحكمون هم بمفاصل صناعة القرار داخل هيئات المعارضة.

قبل المؤتمر بأيام، وبشكل غير متوقع أيضًا، يعلن رئيس الحكومة المؤقتة أحمد طعمة مشاركة المعارضة بمؤتمر سوتشي، وأعتقد أن سيطرة الإخوان أيضًا على المساحة الإعلامية الأوسع في الفضاء السوري المعارض، جعلت الخبر يمر دون أن يتسبب بأي ضجة إعلامية، رغم الموقف الشعبي العام الرافض للمشاركة.

تتناقل وسائل الإعلام صور الطعمة وبعض أفراد الوفد وهم يفترشون الأرض، في محاولة لإظهارهم كوفد مدافع يضحي في سبيل تحقيق مطالب الشعب السوري. بعد إعلانهم الانسحاب من المؤتمر؛ ظلت أسباب رفض المشاركة عامة غير واضحة حتى الكلمة التي ألقاها الطعمة في شبه مؤتمر صحفي، حيث برر الانسحاب برفض المشاركة بغياب عَلم الثورة عن المؤتمر، وكأنه وكذلك أعضاء وفده لم يلاحظوا هذا الغياب منذ استلامهم الدعوات الرسمية!!! في مؤتمره الصحفي، يتحدث الطعمة بكلام غير محدد عن القضايا الجوهرية التي تهم السوريين، ويؤكد على قضية العَلم، يختصر الطعمة كل هموم الشعب السوري بقضية العَلم، ثم ينسحب ويعلن تفويض الوفد التركي بتمثيله في المفاوضات، وتبدو مسرحية هزلية تقدمها المعارضة السورية! فهذا يعني أن المعارضة موجودة، وإن انسحب أفرادها جسديًا فهي ممثلة في المؤتمر، وبالفعل استمر المؤتمر بانعقاده دون أي منغصات إلا بهلوانيات وفد النظام، واعتقد الكثير من السوريين أن المعارضة وجهت صفعة قوية لروسيا، وأن روسيا خسرت كل ما كلفها تدخلها في سورية، لكن الحقيقة لم تكن كذلك؛ فموافقة المعارضة على المشاركة بلجنة الدستور، وفق ما تضمنه البيان الختامي للمؤتمر الذي يصف مهمة هذه اللجنة، بأنها “صياغة إصلاح دستوري يسهم في التسوية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة، وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 2254″، تترك الباب مفتوحًا أمام احتمالات كثيرة، وهذا ما كانت تسعى روسيا إلى تحقيقه منذ بداية تدخلها في سورية، بحيث تنجح تدريجيًا، من خلال مفاوضات طويلة مرهقة، في إعادة تأهيل نظام الأسد وإعادة تقديمه للمجتمع السوري والدولي، وكأن شيئًا لم يكن دون أي محاكمة للمجرمين ودون أي تعويض لكرامة الضحايا.

الأميركي والإسرائيلي والإيراني حاضرون دائمًا، كلٌّ حسب قوته ونفوذه، أميركا لن تقبل بتمرير صفقات الحل السوري دون مباركتها، ولأن العلاقة مع تركيا بدت متوترة جدًا في الآونة الأخيرة لصالح روسيا العدو التقليدي، لم يكن ممكنًا أن تقف ضد العملية التركية، فأعلنت أن عفرين غير مشمولة بعمليات التحالف الذي تقوده، ثم أعلنت وقف دعم القوات الكردية، بعد أن حققت لها أهدافها بالقضاء على تنظيم (داعش)، لكن أميركا يعنيها كثيرًا الحل السياسي في سورية، وبالتالي لن تسمح لروسيا بالانفراد بهذا الحل إلا إذا كان يضمن مصالحها، في هذا السياق، يمكن فهم تصريح وزير الخارجية الأميركي، قبل أيام من انعقاد سوتشي، عن بقاء قوات بلاده في سورية حتى تحقيق أهدافها التي من بينها إبعاد الأسد عن السلطة كما قال، ثم يأتي إعلان الولايات المتحدة بعد المؤتمر عن إمكانية توجيه ضربات عسكرية ضد نظام الأسد، على خلفية نشر تقارير عن استخدام الأسلحة الكيميائية مجددًا في الغوطة، هذا الإعلان لا يمكن فهمه إلا في سياق تنفيذ الاستراتيجية الأميركية في سورية، ومن غير المستبعد أن يكون في إطار التلميح بتغيير موازين القوى على أرض الواقع.

رئيس الوزراء الإسرائيلي يزور موسكو خلال انعقاد المؤتمر، أيّ صدفة!! بالتأكيد “إسرائيل” ليست بحاجة إلى كثير من الضمانات، طالما أن راعيي المؤتمر: روسيا وتركيا، عبّرا صراحةً في أكثر من مناسبة عن التزامهما المطلق بأمنها.

إيران التي أعلنت رسميًا التنديد بالعملية العسكرية التركية في عفرين، ورحبت على مضض بمؤتمر سوتشي، تبدو الخاسر الأكبر، وسيكون من الصعب عليها إيجاد تقاطع بين مصالحها وبين مصالح جميع الأطراف، بالتالي ستمشي على حبل مشدود، كلاعب السيرك، وهي توازن بين أزمتها الداخلية وأزماتها الخارجية في محاولاتها تعويض ما أنفقته من خسائر للحفاظ على نظام الأسد راعي مصالحها ومشاريعها في المنطقة.

دائمًا، هناك مقابل في علاقات الدول، تركيا لن تتنازل ببساطة عن مصالحها في سورية، وهي صاحبة أطول حدود معها، وكذلك حكومة الإخوان، لن تقبل بالتنازل دون مقابل، ليست القيم بالشيء المهم هنا، البراغماتية تقتضي تحقيق نجاح مشروع الإخوان، ولو على المدى البعيد، ولو على حساب مصالح الشعب السوري وحقوقه.

لكن ما هو المقابل؟

صحيفة (الديار) اللبنانية -وهي صحيفة تتبع الحزب القومي السوري المنخرط عسكريًا لصالح النظام في الحرب السورية والخاضع لسلطة أجهزة أمن النظام السوري- تنشر بتاريخ 2/ 2/ 2018 رسالة، (من الواضح ركاكة فبركتها)، من بوتين إلى الأسد، تتضمن الرسالة توجيه نقد للنظام السوري، بسبب انتهاكاته وجرائمه بحق السوريين وتذهب إلى تعداد هذه الجرائم والاعتراف بها، في سابقة غير عادية على صحيفة طالما ظلت هي بحد ذاتها والنظام الذي تدعمه ينكران هذه الجرائم، وتطالب الرسالة بشار الأسد بتغيير سياساته وتقديم تنازلات قد تبدو كبيرة، مع التهديد بعدم توفر الإمكانات الاقتصادية الروسية اللازمة لمواصلة هذه الحرب، لا شك أن هذا التسريب مصدره المخابرات السورية، ولا شك أن هدفه الشارع المؤيد للنظام السوري وليس المعارض، إذًا هناك تنازلات وحلحلة في الأفق، ربما لا تخدم مصالح السوريين كثيرًا ولا تحقق أحلامهم، لكنها بطريقة ما تخدم برنامج الإخوان المسلمين، وهذه التنازلات، مع أهميتها للإخوان المسلمين، لا تعني الكثير لتركيا التي يؤرقها هم قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية، ولضمان انخراط الأتراك بالكامل في صفقة تحقق مصالح روسيا، لا بد من تطمينهم وضمان وصولهم إلى سوتشي، إذًا فلتكن لهم عفرين كأكبر ضمانات الثقة.

مهند البعلي
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون