on
السيادة الوطنية المزعومة
ارتبط ظهور مبدأ السيادة القومية (الوطنية) في القانون الدولي العام، تاريخيًا، بانبثاق الدولة القومية الحديثة في أوروبا، وتحديدًا بعد معاهدة (وستفاليا 1648)، التي أنهت الحروب الدينية بين الطوائف المسيحية، وأدخلت إلى أوروبا نظامًا مبنيًا على مبدأ سيادة الدول، باعتبارها سيادة الدولة العليا والمطلقة على إقليمها، أي حق الدولة في ممارسة وظائفها وصلاحياتها واختصاصاتها داخل إقليمها الوطني، من دون تدخل من أي دولة أخرى.
تطورَ مفهوم السيادة الوطنية، فيما بعد؛ ليصل على صعيد الأمم المتحدة إلى الدولة التي تحافظ على السلام والأمن الوطني، وتهتم برفاهية مواطنيها وحمايتهم. وغدت فيما بعد شعارًا للكرامة الوطنية، وأفضل تجسيد لمعاني السلطة العليا والحرية والاستقلال والتنمية، بحيث لا يمكن تطبيق هذه السيادة دون أن تكون مبنية على أساس تنموي فعال، في خدمة مواطني الدولة كافة، بصورة تحول دون حدوث أي شكل من أشكال الركود الاقتصادي، وفي احترام حقوق المواطنين كافة، بحيث يضمن ذلك العيش الكريم للمواطن، ويمارس حرياته وحقوقه من دون أي قيود، بما في ذلك حرية التجارة، التنقل، التعبير عن الآراء.
للسيادة الوطنية، استنادًا إلى القوانين الناظمة للأمم المتحدة، في الوقت الحاضر مظهران: مظهر خارجي، يتضمن تنظيم علاقة الدولة المستقلة بالدول الأخرى، في ضوء أنظمتها الداخلية، وحريتها في إدارة شؤونها الخارجية، وتحديد علاقاتها بغيرها من الدول. ومظهر داخلي يتضمن بسط سلطات الدولة على إقليمها الجغرافي المعترف عليه دوليًا، وعلى كل المواطنين، وتطبيق أنظمتها عليهم جميعًا.
واستنادًا إلى هذا التعريف النظري للسيادة الوطنية -كما هو متعارف عليه دوليًا- يحضر السؤال عن موقع السيادة الوطنية في سورية من هذا الكلام، والتي يتبجح النظام الأسدي بالحديث عنها، في إعلامه السياسي كل يوم.
لقد أمضى حافظ الأسد ثلاثين عامًا من حكم سورية، بالاستبداد السياسي والديكتاتورية العسكرية، والأحادية الحزبية، وقمع قوى المعارضة السياسية السورية كافة قمعًا عنيفًا، ومورست أشكال فاشية من الاستهتار بحقوق الإنسان للسوريين كافة، إضافة إلى اضطهاد الأقليات القومية الأخرى، من خلال أجهزة مخابراته وجيشه الفاسد، والجولان السوري على مرمى عينيه تحتله “إسرائيل”، منذ عام 1967 أيامَ كان وزيرًا للدفاع، وقيام “إسرائيل” بقصف المواقع السورية الاستراتيجية، متى شاءت دون الرد إلا بالجملة الشهيرة: “سنرد في المكان والوقت المناسبين”، وحوّل سورية إلى سجن كبير، حيث سياسة الاعتقال والزج في السجون لكل مواطن سوري يُشك بولائه للنظام، وارتكب المجازر بحق السوريين والأشقاء اللبنانيين والفلسطينيين، وغياب أبسط الحقوق الديمقراطية والإنسانية، إضافة إلى تعثر ما يسمى بالخطط الخمسية الاقتصادية وفشلها التنموي، في الميادين المجتمعية كافة، وارتفاع معدل البطالة والفقر، وسيادة الفساد والرشوة، في كل القطاعات الوظيفية في أنحاء سورية، وبالتالي؛ أليس هذا التوصيف لحقبة الأسد الأب يتنافى مع أبسط مفاهيم السيادة الوطنية السابقة الذكر.
حتى طريقة توريث الحكم للأسد الابن تتنافى بالمطلق مع مفهوم السيادة الوطنية، حيث استمر النظام السوري يتحدث ويتشدق عنها وعن المقاومة والممانعة، حتى جاءت ثورة 2011، التي واجهها منذ اليوم الأول، باتهام المتظاهرين بالعمالة والخيانة والارتباط بالخارج وخرق السيادة الوطنية، وبالاعتقال والزج في السجون، ومواجهة المتظاهرين حاملي الورود والأزهار، في الأشهر الأولى للثورة، بالرصاص والقتل، وفيما بعد، استجلب كل الميليشيات المذهبية والطائفية؛ من إيران والعراق وسورية؛ لمواجهة الشعب السوري الثائر على الاستبداد والظلم، وعندما لم يطمئن إلى إمكانية الاستمرار بالحكم، قدّم سورية كلها للنظام الروسي، من خلال الاتفاقية الروسية السورية عام 2015 التي فتحت باب الأراضي السورية على مصراعيه، أمام جنود وأسلحة القوات الجوية والبرية الروسية، والتي حصنت أيضًا قوات الاتحاد الروسي، من أي متابعة أو مساءلة قانونية أو قضائية، سواء أكانت سورية أم من أطراف أخرى.
خطورة هذه الاتفاقية أنها تضمنت عدم تحديد مدة بقاء الوجود العسكري الروسي في سورية، كما أنها تضمنت من جهة أخرى عدم وجود أي حقوق للدولة السورية، في مطالبة الروس بمغادرة البلاد. ومن البنود الأخرى التي أثارت الجدل، منحُ القاعدة الروسية “حميميم” حصانة كاملة من القوانين السورية، ومنعُ السلطات السورية من دخولها إلا بموافقة ودعوة روسية.
إضافة إلى استباحة سورية بالقواعد العسكرية الإيرانية والميليشيات الطائفية الموالية لها، وانتشرت الرايات والأعلام الإيرانية وميليشياتها في شوارع دمشق أكثر من رايات النظام الأسدي ذاته، بحيث أصبحت سورية بمثابة أحد الأقاليم الإيرانية بالنسبة إلى الاستراتيجية الإيرانية، وما تصريح رجل الدين الإيراني مهدي طيب، عام 2014، حول أهمية سورية في السياسة الإيرانية بقوله: “إذا هاجمَنا الأعداء، وكانوا يريدون أخذ إما سورية أو محافظة خوزستان؛ فإن الأولوية هنا المحافظة على سورية، لأننا إذا حافظنا على سورية معنا؛ فإن بإمكاننا استعادة خوزستان أيضًا، ولكن إذا فقدنا سورية؛ فلن يمكننا أن نحافظ على طهران”، إلا دليلٌ على ذلك، وثمة تصريحات لمسؤولين إيرانيين، ومن “حزب الله” الشيعي اللبناني، تدور في المضمون ذاته.
هكذا أصبحت كل من (روسيا، إيران، أميركا، إسرائيل، تركيا) تتقاسم وتتنافس في الوقت ذاته، في التواجد العسكري الاقتصادي، وحتى التعليمي الثقافي في سورية، وهذا يتنافى كليًا مع ما يدعيه النظام السوري من السيادة الوطنية، حيث يكفي أن نعرف أن قاعدة حميميم الروسية في الساحل السوري هي التي تنظم حركة الطيران العسكرية المتعددة الجنسيات (الروسية، الإيرانية، الأسدية، الأميركية، الإسرائيلية) في السماء السورية.
ما زال هذا النظام يرتكب المزيد من الجرائم البشعة، منذ سبعة أعوام، باسم (السيادة الوطنية): قتل الآلاف، وتدمير المدن السورية الواحدة تلو الأخرى، والتهجير القسري لملايين السوريين إلى الخارج، وتجويع ومحاربة من بقي في سورية بلقمة الخبز اليومية، إضافة إلى انعدام الأمن الغذائي المطلق، وغياب الأمن الصحي، البيئي، التعليمي، الثقافي، وانتشار جريمة الاتجار بالبشر.
أليس كل هذا ما يدعو إلى الإعلان عن الغياب المطلق للسيادة الوطنية التي يتبجح بها هذا النظام، إلا إذا كان جلوس الجعفري على كرسي سورية في الأمم المتحدة، ليدافع عن هذا النظام، يُعدّ دليلًا على وجود السيادة الوطنية السورية المزعومة!!
طلال المصطفى
المصدر
جيرون