الثورة السورية وأحوالها بعد سبع سنوات



تتهاطل الأسئلة والمقالات والدراسات، حول مآل الثورة السورية، ويتركز سؤال محوري يقول: هل فشلت وانهزمت الثورة السورية فعلًا؟

في شهر أيار/ مايو 2015، عقد الائتلاف السوري ندوة تحت عنوان: “الثورة السورية والحصائل”، كان الهدف منها القيام بعملية تقويمية لمسار الثورة، عبر تلك السنوات، والتركيز على الجوانب السلبية والفجوات التي ظهرت، وقد شارك فيها عدد من المفكرين والسياسيين والناشطين الذين يمثلون طيفًا مختلفًا، إضافة إلى بعض العرب المتضامنين مع الثورة، وقد قدّم عدد منهم آراءه مكتوبة، فطبعت في كتاب إلى جانب المداخلات، وكان الحرص كبيرًا أن تنشر، كما هي من دون تدخل، تأكيدًا على أن أهمية النقد، للتعرف بشجاعة على الأسباب الذاتية التي منعت انتصار الثورة، وأدّت إلى التشوّهات والانحرافات العديدة التي ظهرت، وواقع المعارضة والهيئات القائمة.

في بدايات الثورة، ومع الفرح الغامر بقيامها الذي فاجأ الكثير، وأوّلهم قوى المعارضة التقليدية، وطابعها السلمي الشعبي، كان الخوف يتملّك من محاولات الانحراف، ووضع العراقيل والإفشال، لأن الثورة سورية، وسورية كانت على الدوام ليس قلب العروبة النابض وحسب، بل مفتاح التغييرات وبيتها ومحفّزها، وأن قيام نظام تعددي ديمقراطي يطلق العنان للشخصية السورية المبدعة سيُنظر إليه بعين الخطورة من أطراف عديدة في المنطقة، ومن “إسرائيل” وأميركا وغيرهم، وإيران بالقطع، ولهذا سيحاول هؤلاء منع الانتصار، أو احتواء الثورة، أو التدخل الفاحش في مسارها وبناها، وهو ما حصل فعلًا، وما يمثل عاملًا مهمًا، بل حاسمًا بما آلت إليه.

لكن لا يمكن وضع مسؤولية النتائج على العوامل الخارجية فقط، إذ على الرغم من أهميتها وما فعلت، وخذلانِ المجتمع الدولي وتواطئه في الجوهر، وخلبية الوعود التي أطلقت، وسقوط الرهانات عليه، وما أنتجت، فإن العامل الذاتي هو الأساس والمنطلق، والذي لا يمكن الهروب من دوره وترحيله، بذريعة العوامل الخارجية.

افتقدت الثورة -منذ قيامها- قيادةً مركزية لها، وفي حين كان البعض يفاخر بهذه الخصيصة، فقد أظهرت السنوات أثر تلك الفجوة في حالة الفوضى وانتشار آلاف التنسيقيات والأشكال المتنافسة، والمتضاربة أحيانًا، وبرز هذا الإشكال فاقعًا، في مرحلة العَسكرة وما تلاها، في حين أن القوى السياسية المعارضة التي التحق معها بالثورة، لم تكن قادرة على فعل القيادة، لأسباب بنيوية تتعلق بأزماتها، وما فعله النظام بها، عبر سنوات الاعتقال والمطاردة والحصار والتصحّر السياسي، وحاولت احتلال مواقع القيادة في الهيئات التي قامت، وفق خليطة غير متجانسة مع ما يعرف بالحراك الثوري، فبرزت الفجوات متعددة.

يجب التوقف هنا عند الرهانات على الخارج، وما أنتجت، فقد تخيّل عدد من القيادات في المجلس الوطني، وفي الائتلاف، بعده، وفي معظم قوى المعارضة، أن التدخل الخارجي قادم، وسيكون حاسمًا، على غرار الحالة الليبية، وعلى هذا الرهان، بُنيت سياسات ومواقف كان لها أبلغ الأثر في توهان القرار الوطني، ثم غيابه على حساب الدور الخارجي، وصراعات الهيئات على مقاعد المسؤولية، والابتعاد عن التواصل مع الشعب وفعالياته.

حين تشكّل “الجيش الحر”، كحالة دفاع عن النفس وحماية المتظاهرين، كانت الفجوة الرئيسة فيه تلك الفوضى والعفوية، تمامًا كالتنسيقيات وانتشارها، دون وجود قيادة مركزية، أو خطة عمل استراتيجية، وهنا برز الدور الخارجي في وضع المصدّات المانعة لوحدة العمل العسكري، ثم دخول عدد من الدول الإقليمية والخارجية على خط العَسكرة، وتجاوز دورها في التمويل والتسليح إلى إنشاء فصائل عسكرية تدور في فلكها، وتتلقى الأوامر منها، وتطور هذه الوضعية باتجاه تصفية فصائل “الجيش الحر”، وتهميش معظم الضباط المنشقين، أو إجبارهم على الانخراط في الفصائل القائمة، والمتوالدة دومًا، فسيطرة شعارات ورايات الأسلمة التي أخذت الثورة إلى أمكنة أخرى تختلف عن بداياتها، وتشكيل بيئة قابلة لتوليد، وتفريخ الاتجاهات المتشددة، فالإرهابية التي تشابكت مفاعيل وجودها وسيطرتها، بين هذه العوامل، وبين التصنيع الخارجي، واستخدام هذا الوضع من قبل عدد من الدول، وتعميم ما يعرف بمحاربة الإرهاب، وما فعلت تلك الحروب، وما قامت به (داعش) وشقيقتها (هيئة تحرير الشام).

لقد كانت المعارضة تسيطر في فترة ما على نحو 70 بالمئة من الجغرافيا السورية، وكان السؤال المركزي: لماذا لم تنجح الثورة في إسقاط النظام الذي كان يتهاوى؟ وهل السبب يُختصر بالتدخل الإيراني فقط أم يعود إلى واقع الشرذمة، وسياسة الاستئثار والاستحواذ عند جلّ الفصائل؟ وما الذي كان يمنع وجود غرفة مشتركة، وأنواع من التنسيق، بدل الصراعات والحروب البينية، وأثر هذا الواقع في حالة الانحسار، والتراجع، وقوفًا عند حلب والهزيمة فيها، ثمّ الخط التراجعي الذي يطرح أسئلة مهمة عن مصير الثورة والمستقبل، وعن القدرة على تحقيق الأهداف الرئيسة في تغيير النظام وإقامة البديل؟

لقد فشل، وسقط، الخيار العسكري كعامل حاسم في تحقيق الهدف، وقامت الدول المعنية الراعية له باحتوائه، والقيام بخطوات متلاحقة من التفكيك، والإضعاف، ثم لقاءات أستانا وموقعها في تحجيم الفصائل، وفرض اتفاقات الأمر الواقع عليها، ضمن ما يُعرف بـ “مناطق واتفاقات خفض التصعيد”، وحالة الانحسار المتتابعة في وجود الثورة والفصائل على الأرض، وقوفًا عند وضع الغوطة، ومصيرها الذي سيترك أبلغ الأثر على الثورة وفعاليتها وقدرتها على التأثير، وعلى الحل السياسي.

وفي سياق الحديث عن الحل السياسي الذي قبل به المجلس الوطني “مجبرًا”، ثم الائتلاف، حين إعلان الموافقة على بيان (جنيف 1)، وبدء مسار المفاوضات الذي لم يقترب في كل جولاته من قرارات الشرعية الدولية، بسبب رفض النظام المدعوم من روسيا، فإن دحرجة متتالية حدثت في مضمونه باتجاهات ليست لصالح الثورة، ويتجلّى ذلك بوضوح في بيان (فيينا 1)، و(فيينا 2)، ثم في القرار الدولي 2254، ثم في الطبعة الحالية لمخرجات لقاء سوتشي، وقصة اللجنة الدستورية، والسلال الأربع ومصيرها. لقد كان الرهان يتركز على تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، وهي التي ستتفرّع عنها مجموعة من المهام والهيئات، كبناء أجهزة الأمن، والجيش، وتشكيل لجنة دستورية لصياغة دستور جديد، يطرح على الاستفتاء الشعبي، أو يقرّ من قبل مؤتمر وطني عام، وقد تزحلقت ثم غابت ضمن حصر المفاوضات على “سلتين”: الدستور والانتخابات، ثم طرح صيغ فضفاضة، عمّا يسمى بإيجاد البيئة الآمنة والملائمة لإجراء الانتخابات، والتي تتعلق ببعض البنود التي كانت ضمن مهام وصلاحيات هيئة الحكم الانتقالي.

نحن أمام خط تراجعي واضح على هذا الصعيد، بينما يواجه الشعب الذي ثار مجموعة تعقيدات كالحصار، وحالات الإحباط، ووضع الهيئات القائمة، خاصة الائتلاف، العجز عن القيام بدوره القيادي المأمول، إلى جانب أوضاع النزوح واللجوء والهجرة وغياب الأفق الذي يحمل أملًا بحل سياسي قريب.

مع ذلك، ما تزال الثورة حيّة في قلوب وفكر وحركة ملايين السوريين، المؤمنين بالاستمرار والصمود والتصميم حتى تحقيق الأهداف، وهذه حقيقة، واستناد رئيس، يجب الارتكاز عليه من قبل هيئات الثورة، ووضع برنامج عمل واقعي يتيح تفعيل العلاقات مع أطياف الشعب السوري وحراكه، وتقوية العامل الذاتي، وفق مهام قابلة للتحقيق تستعيد القرار الوطني، وتمنح القدرة على توحيد الجهود ضمن اصطفاف وطني عريض، يمكنه أن ينتزع حقوق الشعب، ويوفر مقومات فرض حل سياسي مقبول.


عقاب يحيى


المصدر
جيرون