روسيا والنظام السوري: من الذي يتحكم بمن؟



على الرغم من مرور أكثر من عامين على التواجد العسكري في سورية، لم يستوعب صناع القرار في الكرملين طبيعةَ وخصوصية المعركة السورية، بكل حمولاتها المحلية والإقليمية والدولية، فما زالت روسيا إلى الآن تتعامل مع الواقع السوري انطلاقًا من معادلة أن الحرب امتداد للسياسة، وإن بوسائل أخرى.

بمعنى أن ما يتم تحقيقه عسكريًا على الأرض لا بد أن ينعكس بالضرورة على المستوى السياسي، ولذلك بدأت موسكو مدفوعة بالانتصارات العسكرية تعبيد الطريق أمام مفاوضات (جنيف 3)، وفق تأويل معين لمنطوق بيان (جنيف 1)، ومن ثم الاتفاق على هدنة لوقف إطلاق النار في بعض المناطق.

لكن روسيا اصطدمت بعقبتين:

– العقبة الأولى جاءت من النظام السوري ذاته الذي أعلن رفضه أكثر من مرة أي حل سياسي، قُبيل إنهاء معركته على الأرض، وعند هذه المسألة حصل الافتراق الجزئي بين النظام وروسيا، وبدأت التصريحات تنطلق من العاصمتين بحمولات سياسية مختلفة؛ الأمر الذي دعا المندوب الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركن آنذاك إلى الردّ على تصريحات الأسد التي أعلن فيها عزمه الاستمرار في الحرب، ثم جاء تصريح المتحدثة باسم الخارجية الروسية، حول إجراء انتخابات تشريعية في سورية، ليباعد بين الموقفين.

وفي محاولة للضغط على دمشق، أعلنت موسكو سحب جزء من قواتها من سورية في اليوم ذاته الذي انطلقت فيه مفاوضات (جنيف 5) في آذار/ مارس 2016، إنها رسالة سياسية لدمشق بأن وقت التسوية السياسية قد آن.

– العقبة الثانية جاءت من حلفاء المعارضة الإقليميين، بتواطؤ أميركي، عبر رفض إدخال “أحرار الشام” و”جيش الإسلام” في قائمة المنظمات الإرهابية أولًا، وتعديل وفد هيئة التفاوض للمعارضة، بما يستجيب مع المطالب الروسية ثانيًا، وتغيير السقف السياسي للمعارضة ثالثًا.

هنا، اكتشفت موسكو أن مقاربتها لا تستقيم مع المقاربة الأميركية التي تفصل فصلًا حادًا، بين ما يجري على الأرض وما يجب أن يجري على طاولة المفاوضات، أو على الأقل منع استثمار النجاحات العسكرية على طاولة المفاوضات.

وأمام فشل جولات (جنيف 3ـ4ـ5)، وفشل الهدنة العسكرية في 27 شباط/ فبراير 2016؛ قررت روسيا الإلقاء بكامل ثقلها العسكري لتغيير معطيات الميدان، بشكل شبه كامل، ولذلك أعادت تعزيز قوتها في سورية، استمرارًا في المبدأ ذاته: (الحرب امتداد للسياسة).

وبُعيد تحقيقها كثيرًا من الإنجازات العسكرية أعادت الكرة مرة أخرى، بالاتفاق مع الولايات المتحدة على عقد هدنة عسكرية، في 9 أيلول/ سبتمبر 2016، بعد اجتماعي وزيري الخارجية الروسي والأميركي.

جاءت الهدنة العسكرية الثانية تعبيرًا عن المتغيرات في الميدان السوري، وخصوصًا في محافظة حلب، وتعبيرًا عن التحالفات الجديدة التي تُرجمت بدخول عسكري تركي إلى الأرض السورية، عبر بوابة “درع الفرات”، لكن الهدنة سرعان ما فشلت أو أُفشلت من قبل الأطراف المحلية: (النظام/ المعارضة).

استغلت روسيا فشل الهدنة لاستكمال عملية الحسم العسكري في حلب، بمباركة أميركية مضمرة، وإذا كانت مرحلة ما قبل الهدنة تسمح بتمييز المعارضة المعتدلة عن تلك المصنفة تحت قائمة الإرهاب؛ فإن مرحلة ما بعد الهدنة لم تعد تسمح بذلك، وأصبح المطلوب هو خلو حلب من كافة المسلحين بمختلف ألوانهم.

اتجهت موسكو بُعيد تفاهماتها مع أنقرة إلى إنشاء مسار عسكري، لا يخلو من بعد سياسي (أستانا) يكون ضامنًا لوقف إطلاق، ويمكن ملاحظة التحول الذي حصل في تلك المرحلة في الموقف الروسي، في أمرين:

الأول اقتناع الروس بأنهم غير قادرين بمفردهم على تطبيق وقف إطلاق النار، ويتطلب الأمر الاستعانة بطرف إقليمي قادر (تركيا)، والأمر الثاني التفاهم مع فصائل المعارضة العسكرية وشرعنتها، لكنّ كلا التطورين لا يخرج عن المبدأ الأساس الناظم للاستراتيجية الروسية: (الحرب امتداد للسياسة).

على مدار عام 2017، نجحت أستانا في الوصول إلى خفض التصعيد، بطريقة لم تعرفها السنوات السابقة، وهذا النجاح دفع موسكو إلى التفكير في اجتراح مسار سياسي جديد، من شأنه أن يحقق خرقًا سياسيًا كما حقق أستانا خرقًا عسكريًا.

لكن المقاربة الروسية فشلت، فلم تستطع موسكو تحقيق أي إنجاز سياسي، وظلت انتصاراتها العسكرية بلا هدف، وهكذا انهار مؤتمر سوتشي أمام أعين الكرملين الذي سرعان ما هدد، عبر قاعدة حميميم، بصب جام غضبه على المعارضة التي أفشلت مؤتمر سوتشي.

بعد كل ذلك، تواصل موسكو اعتماد مقاربتها الاستراتيجية ذاتها، فمع كل فشل سياسي تتجه إلى التصعيد العسكري، وتصبح أسيرة النظام وإيران وتركيا كل لحساباته، كما حدث في إدلب والغوطة وعفرين.

غير أن السؤال الرئيس هو: هل الروس عديمو المهارة السياسية، بحيث لم يفهموا حقيقة الوضع السوري؟!

الإجابة في تقديري أنهم يدركون تمامًا الوضع السوري، لكنهم مضطرون إلى اعتماد هذا الأسلوب، لوقوعهم بين نوسان سياسي غير قابل للحل، فلم تستطع روسيا إلى الآن فرض أجندتها السياسية على النظام، لأنها تدرك أن الضغوط على النظام تقف عند حد معين، ولا يمكن الضغط أكثر من ذلك، ففي الحالة السورية لا إمكانية لتهديد رأس النظام باستبداله بأحد آخر، لأن سقوطه يعني سقوط النظام بالكامل وسقوط الروس.

اكتشف صناع القرار في موسكو أن تركيبة النظام السوري لا تسمح بعمليات ضغط داخل أروقة السلطة، في ظل عجز تام عن تمييز مكونات النظام عن مؤسسات الدولة، وفي ظل استحالة وجود مراكز قوى قادرة على الضغط، وفي ظل عدم قابلية النظام لفكرة التسوية ذاتها.

ومن جهة ثانية، لم تنجح روسيا في فرض أجندتها السياسية على الولايات المتحدة، بل على العكس استطاعت واشنطن، عبر سياسة الخطوة خطوة، تحقيق إنجازات عسكرية في سورية، حشرت الروس ومنعتهم من استغلال انتصاراتهم العسكرية، في وقت اتجهت واشنطن -ولو متأخرة- إلى وضع خطة إطار سياسية للعملية التفاوضية.

وأمام هذا الواقع؛ لا تستطيع روسيا سحب دعمها العسكري للنظام، لأنه سيمحو المكاسب الروسية المتراكمة داخل الجغرافيا السورية وخارجها، ولا هي قادرة على تدمير المعارضة بشقيها العسكري والسياسي، ولا هي قادرة على إقناع الولايات المتحدة بمقاربتها الاستراتيجية، ولهذا تجد موسكو نفسها مضطرة إلى اعتماد لعبة النظام السوري، الماهر جدًا في اللعب على التناقضات المحلية والإقليمية والدولية.


حسين عبد العزيز


المصدر
جيرون