هل كان يمكن تجنب المأساة السورية؟
24 آذار (مارس)، 2018
بعد اندلاع حركة الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الأسد، وانتشارها في معظم المدن والمناطق السورية؛ ساد شعور عام بأن سقوط نظام الأسد بات وشيكًا، وكانت معظم التحليلات والتصريحات السياسية، في ذلك الحين، تبشر بقرب سقوط النظام، لا بل إن بعضًا ممن تصدروا قيادة العمل المعارض جزموا أن أيام الأسد باتت معدودة، وعملوا على هذا الأساس. وانقضت السنة السابعة على اندلاع الاحتجاجات الشعبية المناهضة للنظام السوري، دون أن يسقط الأسد ونظامه، بل سقطت سورية في بحر من الدماء والدمار والخراب الممنهج، وقُتل مئات الآلاف من أبنائها، وشُرّد وهُجّر الملايين منهم، فضلًا عن مئات الآلاف من المعتقلين والمفقودين.
ما زلت أذكر ما حدث صبيحة الخامس من شباط/ فبراير 2011، يوم اجتمعتُ مع صديقي وأستاذي المحامي خليل معتوق المعتقل منذ 2/ 10/ 2012، ومحام آخر (ما زال يعيش في دمشق) قضى أكثر من خمسة عشر عامًا في سجون النظام.
اجتمعنا في قاعة المحامين بالقصر العدلي بدمشق، وبدأ الأستاذ معتوق الحديث بسؤال صديقنا المحامي: “قل لنا، يا صديقي، بحسب خبرتك في السجن لأكثر من 15 سنة، كيف ترى الأمور؛ هل تعتقد أن النظام سيسقط، بعد أن سقط مبارك بـ 800 قتيل، وبن علي بـ 400 قتيل؟ وكم سيسقط من القتلى عندنا، قبل أن يسقط النظام؟” ضحك صديقنا المحامي ثم استغرق في التفكير قليلًا، عندئذ قاطعته قائلًا: “يا أستاذ، هل يحتاج الأمر إلى كل هذا التفكير؟”، أجاب بلهجة الواثق من كلامه: “ربما ستضحكون عليّ، إذا قلتُ لكم إن الأسد لن يسقط قبل سقوط مليون قتيل، فهذا النظام لن يتنازل قيد شعرة عن الحكم، لأنه إذا تنازل؛ سقط، وإن طبيعة وتركيبة النظام الأمنية التي بناها خلال خمسين سنة الماضية لا تسمح له، لا بالتنازل ولا حتى بالإصلاح، لذلك ليس أمام النظام سوى سلوك خيار: (يا قاتل يا مقتول)”.
في الحقيقة، صُدمتُ أنا وأستاذي معتوق بقول صديقنا، قبل أن يرد عليه بالقول: “خذنا بحلمك، تكلم كلامًا معقولًا… مليون قتيل؟! كما لو أنك تتحدث عن عصافير!”.
استجمع صديقنا المحامي نفسه، وأخذ يشرح لنا بإسهاب كيف توصّل إلى هذه النتيجة المرعبة، منوهًا إلى أن الأوضاع في مصر وتونس تختلف اختلافًا كليًا عن سورية، فعلى الأقل، كان يوجد في تلك الدولتين هامش من الحريات، وتوجد أحزاب فاعلة، كما توجد منظمات مجتمع مدني، أما في سورية فلا حرّية ولا حياة سياسية ولا من يحزنون، وتم تدمير المجتمع السوري، منذ قيام الوحدة مع جمال عبد الناصر الذي بنى نظامًا أمنيًا استبداديًا، هذا النظام الذي استند إليه حزب البعث في حكم البلاد، بعد استيلائه على السلطة في انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، قبل أن يُحوّل الأسد الأب سورية إلى دولة من الرّعب والخوف، ثم إلى مزرعة له ولأقربائه، مستشهدًا بما سبق أن قاله عارف دليلة في منتدى الأتاسي عام 2001: “إن سورية تحوّلت إلى مزرعة لبيت الأسد وبيت مخلوف وشاليش”، هذا القول الذي تسبب بسجن دليلة عشر سنوات، وختم صديقنا حديثه بالقول: “لهذا؛ لن يتخلى الأسد عن الحكم بهذه السهولة، والأيام ستأتي وسترون وتسمعون العجب”.
الآن، بعد سبع سنوات على اندلاع الاحتجاجات المناهضة للنظام السوري، ما زال الكثير من السوريين يسألون بمرارة وحسرة: لماذا حصل كل ذلك؟ ألم تكن هناك إمكانية لسلوك طريق آخر أقل كلفة؟
ملايين السوريين الذين انتفضوا في وجه نظام الأسد لم يحملوا سلاحًا، بل حملوا ورودًا، وبُحّت أصواتهم طلبًا للحرية والحوار بلا عنف وإكراه، وكان باستطاعة النظام السوري -لو أراد تجنب انزلاق سورية نحو الهاوية- الاستماعُ إلى مطالب الناس، لكن يبدو أن نظام الأسد مدعومًا من روسيا وإيران خشي من أن أي تنازل، ولو كان صغيرًا، يمكن أن يؤدي إلى فقدانه السلطة؛ فكان قراره أن واجه الشعب بالحديد والنار وبعنف تدميري مفرط في الوحشية. وأذكر هنا أن كثيرًا من السوريين الذين كانوا يشاركون في التظاهرات المناهضة للنظام عام 2011، كانوا يودعون أهاليهم قبل المشاركة في التظاهرات، تحسبًا لما قد يتعرضون له من قتل أو اعتقال، وهذه برأيي أحد أهم العوامل التي حالت دون تجنب الكارثة السورية، يضاف إليه عاملًا آخر لا يقل أهمية، وهو غياب الحامل السياسي لقيادة وتوجيه وتأطير الاحتجاجات الشعبية، وأن مَن تصدر المشهد السياسي والعسكري، من الشخصيات المعارضة، لم يكن له قاعدة شعبية على الأرض، وبالتالي؛ فإن تأثيره في تغيير مسار الأحداث كان ضعيفًا جدًا، كما أن كثيرًا من تلك الشخصيات افتقر إلى الرؤية الصحيحة، حيث طغى التسرع والارتجال على تصرفاتهم ومواقفهم، ووقعوا فريسة للأوهام، واستسهلوا الارتهان لقوى وأجندات خارجية؛ ما أفقدهم إمكانية إنشاء قوة سياسية وطنية، يمكن أن يُعوّل عليها العمل النضالي، وفشلهم بالتالي حتى في جمع القوى المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، في إطار واحد، وكان للتدخلات الدولية والإقليمية دورٌ كارثي في تمزيق قوى المعارضة وأسلمتها، وهذا ما أدى بدوره إلى تعقيد الوضع في سورية، ومفاقمة أوضاع السوريين على العموم، وتحولت سورية إلى ساحة حرب بين دول إقليمية ودولية، وأصبح السوريون وقودًا لها بدون حساب.
باختصار: كان من الممكن تجنب المأساة السورية، لو كان لدينا قائد وطني، بمواصفات نيلسون مانديلا، ورئيس شجاع مثل دوكليرك، ومجتمع مدني حقيقي، وظرف دولي مساعد. وحتى الآن، يبدو أن الخروج من هذه المأساة، في ظل هذه الظروف المتوحشة، بات يحتاج إلى معجزة، ونحن نعيش في زمن لا معجزات فيه.
ميشال شماس
[sociallocker]
جيرون