سوق اللحم السوري

31 آذار (مارس)، 2018
7 minutes

[ad_1]

على طريق المحلق الجنوبي، وبينما يحكي سائق سيارة الأجرة لي، عن ارتفاع أسعار البيوت في مدينة جرمانا، وأن الناس أصابها الجنون في هذا البلد، كانت دراجةٌ ناريّة تمشي بمحاذاتنا مسرعةً تحمل ثلاثة رجال. سائق الدراجة كان يتمسك جيدًا بأكياس سوداء، أما الرجل الذي يجلس في الوسط، فكان يحتضن دميةَ دبّ أبيض كبير الحجم، صاح سائق سيارة الأجرة فجأة قاطعًا حديثه عن البيوت وأسعارها، مشيرًا إلى الدراجة: “تفضلي تفرجي بلش التعفيش”. طلبتُ منه أن يسرع، كي أتمكن من التقاط صورةً للدمية الدب، لكنه لم يكترث لطلبي ورفع صوت الراديو.

قبل أربع سنوات، عندما تحولت بلدة المليحة إلى صحراء، انتهى تقاطع البلدة مع جرمانا، بسوق طويل يبدأ بصحون من الألمنيوم المكومة فوق بعضها على الطريق، وينتهي بالعيون الزرق وآيات الكرسي التي عُلقت يومًا ما فوق أبواب البيوت. كنت أمرّ قربها في طريقي إلى بيت أصدقائي، رأيت مرةً عينًا زرقاء، سقطت غفلةً في جوف حذاء رياضيٍّ مهترئ.

كان لأصدقائي شرفة تطل على الأجساد المعروضة للبيع في السوق من جهة، وعلى بيوت المليحة البعيدة المعتمة من جهة أخرى. “أصحاب البيت في مكان آخر، السجاد فتات خبز، والبيت بسقفه الواطئ، وحيدًا يلعق ثقوب الرصاص، ملاعق البيت تزحف تحت الأقدام، ملاقط الغسيل أسنان لبنية، وأصحاب البيت في مكان آخر”.

سمعت الهواء يهمس هذه الأغنية: كيف سيكون قلب أمي إن رأت ستارة صالونها تتدلى في بيت آخر؟ أو كيف لجسدي أن يمرَّ بمحاذاة ثيابي، وهي مفروشة فوق الأرض، ورائحتي قطة تموء قربها؟

كل ما ترغب فيه من حياة الآخرين، من لحمهم وعرقهم وتعبهم وأغنياتهم وضجرهم وأسرارهم، موجود هنا، وبأسعار مغرية زهيدة، ما عليك سوى أن تتابع نسيانك، وتتدعي أن هذه الحيوات ما هي إلا غنائم، وأن قلبك صار آلة.

في غسالة الملابس، كان أحدهم قد وضع قنبلة قبل أن يهاجر بيته، انتشرت هذه الخبرية في السوق، وبدأ “المعفشون” بتنظيف قطعهم وتفتشيها قبل عرضها أو فتحها، وخَفَت نجم البضاعة “المعفشة” لفترة قصيرة، ثم عاودت حيوات الآخرين تهرب تحت الشمس إلى زبائن جدد.

دخل صاروخ في الجدار المجاور لنافذة بيت أصدقائي التي كنت أرى منها المليحة والسوق، ولحسن الحظ كان أصحاب البيت الذي اخترقه الصاروخ في الخارج، بقي جسد الصاروخ معلقًا نصفه داخل الجدار والنصف الآخر ينتصب في الهواء، كنت أدخن على حافة النافذة في أغلب الاحيان، أنفض الرماد فوق جسد الصاروخ وأتخيل أن القمر يراه خاتمًا يلمع في إصبعي.

زوجة خالي في جسر الشغور، عندما لمّت أطفالها بأسنانها ورمتهم في الشاحنة، قبل أن يهاجروا القرية، قفزت من الشاحنة مسرعةً والرصاص يدوي في كل مكان، رجعت من منتصف الطريق إلى حظيرة حيواناتها، وفتحت لهم الباب، قائلة: “الله معكون روحوا أنتو كمان”.

تزوجت صديقتي منذ ثلاث سنوات، ولم أحضر زفافها، أخبرتني أن بيتها غدا جاهزًا تمامًا، وليس هناك من داعٍ لأن تؤجل عرسها مرةً أخرى، كان بيتها عبارة عن مدن سورية مهجورة، الأبواب من المليحة والأثاث من داريا والطريق إلى بيتها كان حمصيّا، أما وجهها فكان من بلاد لا أعرف اسمها.

تفرق امرأة رأيتها في الصيدلية، بين الأغراض المستعملة والمسروقة، وتضيف أن الناس لا يعلمون مصدر تلك الأغراض، ولهم عذرهم، يقاطعها الصيدلاني بأن الفقر دفع الناس إلى أكل بعضهم بعضًا، كنت أريد أن أشتري حبوبًا للصداع، وكانت المرأة تسأل عن لاصق للجروح.

أسرة نزحت إلى ضاحية قدسيّا، تعرفتْ على بيتها في السوق الرسمي لحيوات الآخرين، صرخت العجوز: هذه صحون مطبخي وأنا أعرفها من ندباتها، لم يستطع زوجها شراء حياته من على الطريق، تقاسمها مع عائلة أخرى، مرددًا: “والله هالتلفزيون إلنا”.

وسائد تتكوم في سيارة مكشوفة تعلو فوق أشياء غامضة، كانت بيضاء مزخرفةً على الجوانب بزهور ملونة، تقف غرف النوم الكاملة مع أنفاس أصحابها وأحلامهم في أول الشارع. المدافئ والطاولات والكراسي والآلات الكهربائية وقطع السيراميك المقلوعة والمغاسل والحنفيات المفكوكة، مرمية بشكل عشوائي، بانتظار أن يفحصها زبائن عشوائيون ويتخيلوها جيدًا في بيوتهم.

أن تضع أصابعك رموشًا لعينيك، أن تغلق أذنك بلسانك، أن تمضغ أحلام غيرك، أن يتصاعد وحل السنين إلى حلقك.. السنين التي وقفت فيها منبوذًا، وهم يلتقطون صورًة لوجهك في البطاقة الشخصية، السنين التي ارتعشْتَ فيها من البرد، وأنت تركض خلف الجبال مرددًا النشيد الوطني.. يحدث هذا تحت الشمس وأنت تنفض الغبار عن المزهرية وتطرق جسدها بظفرك الأخير، سائلًا صديقك “المعفش” عن سعرها.

في آخر السوق، مدّ أحدهم حصيرة، واضعًا في وسطها كرسيًا خشبيًا مطعمًا بالصدف، وجلس فوقه، لم يكترث المارّة إلى بضاعته، اعتقدوا أنه مجنون، فقط الأطفال الذين يرافقون أمهاتهم إلى سوق التعفيش تكوموا حول الحصيرة، وراحوا يلعبون، اعتقدوا أنهم في حديقة.

أمر على محل الأنتيكات في شارع باب شرقي، لديّ هوس قديم باقتناء الصور الفوتوغرافية القديمة لأناس أجهل من هم، وكيف كانت حياتهم، يستغرب صاحب المحل سؤالي عن صور جديدة بعد الكمّ الهائل الذي عرضه عليّ، يقول في كل مرةٍ: ماذا تفعلين بكل هذه الصور؟ أجيبه دائمًا بأني أعيدها إلى مكانها.

كم تمنيت أن تخرج كل الأشياء المتكومة في محل الأنتيكات كخردة كجثث، كم حلمت بأن تغادر معي إلى البيت. في زاوية الصالون، علّقتُ صورةً منذ الخمسينيات لراهبة بالأبيض والأسود، نظرتها كظهيرة الحقول في يوم خريفي، كما أن إطار الصورة الفضي بدا صورةً بذاته.

في المعجم الوسيط، يشير الفعل “عَفَشَ” إلى جَمَعَ، عفش الشيء جمعه، و”العُفاشة” هم الناس الذين لا خير بهم. أما الكلمات التي تمّت للتعفيش بقرابة لغويّة مثيرة، ففي معجم اللغة العربية المعاصرة، الأعفش هو الأعمش ضعيف البصر ومؤنثه عفشاء.

وفي قاموس جدتي الغزير بالكلمات الغريبة والعجيبة، والتي تكون أحيانًا كثيرة من تأليف جدتي نفسها، حسب الحالة والوقت والمكان، تعني كلمة “عفْشة”: الناس النكرة الذين يمضون حياتهم دون أي شعور بقيمة لهم، ودون أن يشعر أي أحد بوجودهم.

سوزان علي
[ad_1] [ad_2] [sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون