on
السينما والمؤثرات الرقمية
منذ اختراع السينما، سؤال لا يفارق مسيرتها: هل السينما لغة أم صناعة؟ وبقي السؤال الذي جوابه بسيط يراوح مكانه، كلما تم إضافة تقنية لهذا المخلوق الجديد والساحر والمرتبك. لكن الواقع يقول: ليس هناك من إبداع فني أنتجته البشرية، كهذا الإبداع، في سرعة تطوره وتبدله واستيعابه لكل ما يجعله في صدارة الفنون.
وكأن السينما عقدت اتفاق “جنتلمان” مع ما كل هو جديد، بأن يكون جزءًا منها ومكونًا لها. فعلى صعيد البناء الفني، لم تخجل السينما في استيعاب المسرح، بكل مكوناته الدرامية ومفاهيمه، في العلاقة مع الممثل، بصفتها فنًا أدائيًا بامتياز، ولم تترك فن الرواية إلا أخذت منه البناء الحكائي وروح السرد الجميل، كما استعارت الفلسفة والتاريخ والموسيقى والكثير من الفنون.
بشغف وجمالية، كانت تنهب الحياة والألوان والمدارس الإبداعية، من سوريالية وواقعية ورومانسية.. وكأنها جزء لا يتجزأ من الأدب مرة، ومن التشكيل مرة ثانية، ومن الموسيقى والرقص والجنون مرات أخرى. فالسينما كائن يتطور وينمو بروح الطفولة التي لم تنته بعد. ولذلك، نستطيع القول إنها أكبر طفل معمّر في الحياة.
وفي تطورها التقني كانت كذلك أيضًا، نشأت وهي لا تعلم كيف ستكون على الشاشة قافزة تنط، حتى تم اكتشاف الـ 24 “فريم” في الثانية، متحدة مع علماء الميكانيك والبصريات، كي تصبح انسيابية كحركة الحياة تمامًا.
من الأبيض والأسود إلى ألوان الطبيعة وما نتخّيله منها، متناغمة مع علماء الكيمياء وبحر الألوان. كانت خرساء، فاكتشفت الصوت، وتعاملت مع علماء الفيزياء والصوتيات. وهي نهمة جسورة، تتحرك بخطى ثابتة من مختبرٍ لمختبر، ومن عالم ومخترع لعالم ومبتكرٍ، وكأنها تمتلك الحياة وحدها، ومن حقها أن تكون كل الأشياء.
وحدة جدلية بين الصناعة من جهة، واللغة الفنية من جهة أخرى، بأدواتها المتنوعة، من كاميرا وشريط سينمائي، إلى شريط “الديجتال” الواضح إلى عالي الوضوح high definition HD، حيث حدث صراعٌ جديد، بين استخدام التقنيات الرقمية في صناعة الفيلم، وبقاء السينما على الشريط الكلاسيكي المكون من شريط طويل من البلاستيك، يتكون من طبقة شفافة، من مادة “السليلويد”، وطبقات أخرى كيميائية حساسة للضوء.
لم يتوقف التطور الرقمي-الديجيتال– فسرعان ما استغنى عن الشريط متحولًا إلى صفائح رقيقة تسمى “الداتا”؛ حيث بدأت السينما باختيار هذه الداتا، كمساعد للشريط السينمائي الكلاسيكي، لسهولة هذا الاختراع في تشكيل المؤثرات المعقدة، وتشكيل الخدع، وظهور المونتاج الرقمي الذي نقل السينما من “الهاردوير” إلى “السوفت وير” الإبداعي والتقني، وإمكانية الاستفادة من ظهور وتطور علم الكمبيوتر.
إن السينما الحديثة -بإنتاجها العالي الذي قد يصل إلى مئات الملايين من الدولارات- بدأت بتخفيض الوقت والمال من خلال المؤثرات الرقمية Digital Effects، واستطاعت أن تخلق على الشاشة جموعًا من البشر في تكثيرهم واللعب بالإيهام الصوري، بينما كان ذلك مكلفًا في الوقت والمال قبل استخدام هذه المؤثرات، وما طرأ عليها من تطور.
وتطورت وظهرت أفلام “الأنيميشن” الجديدة التي كانت في الصناعة الكلاسيكية تتطلب جموعًا من الرسامين المحترفين في صناعتها، ثم ظهرت الصورة المجسمة “ثلاثية الأبعاد”.. وكان كل ذلك بفضل المؤثرات الرقمية والحداثة التقنية العلمية.
كان السينمائيون على حق، عندما تشبثوا في الشريط السينمائي الذي يعرض على الشاشة صورة مختلفة عن صورة الديجيتال الخالصة، صورتان مختلفتان في الحس (قماشة الصورة) تمامًا كما يتصارع الكتاب الورقي مع الكتاب الإلكتروني، لكن المحتوى الفني في السينما هو جزء من الشكل الحسي والإبداعي، والعكس صحيح. و(الديجتاليون) على حق، وهم ينهلون من علم تطورات الكمبيوتر التقنية ليوظفوها في صناعة السينما، لكن الحكم الفني، يبقى في صعود، وكذلك الإبداع في اللغة السينمائية للفيلم، ومدى قدرته على صنع الحكاية السينمائية، بروح الدراما وخلق المعنى والتعبير من خلالهما عن أفكار جديدة وموضوعات جديدة، وصورة أخّاذة جديدة.
السينما ما زالت طفلة شقية وسعيدة بالكون ومنجزاته، لتكون الحامل الأكبر له.
ربما يكون هناك عناد ومقاومة للجديد في كل شيء ومنها السينما. لقد تأخر مبدع المبدعين شارلي شابلن في التعامل مع الصوت، حيث استطاع العلم إدخاله في بنية الفيلم الفنية والتقنية، وكانت مراسلات وحوارات كثيفة بينه وعبقري السينما الروسي سيرغي أيزنيشتاين، ليقنع شابلن في استخدام الصوت في أفلامه. وكان فيلم الديكتاتور تحفة سينمائية عظيمة لشابلن.
لقد استطاع الفيلم الرقمي أن يعطي إمكانية عملية للمخرجين الشباب الفقراء منهم، أن يعبروا ويسردوا حكاياتهم وأفلامهم الوثائقية، من خلال هذا الاختراع العظيم الذي اسمه الديجيتال. فالميديا برمتها والصحافة المرئية الرقمية تكاد تغطي العالم، وتكون بحوزة كل فرد بيده هاتف ذكي. وهذا موضوع آخر، لكنه يبقى من إرث تطور الصورة الرقمية.
فيصل الزعبي
المصدر
جيرون