on
أبعد من إلغاء اتفاق
بعد أن سطا ملالي قُم على ثورة الشعب الإيراني التي أسقطت مخفرًا متقدمًا للغرب الرأسمالي وخصوصًا الأميركي عام 1979، وأزاحت محمد رضا بهلوي، في مشهد درامي ألهب مشاعر مئات الملايين من شعوب المنطقة والعالم، ودفَع دولًا إلى عدّ الثورة الإيرانية حدثًا جللًا ومزلزلًا، وإحدى العلامات الفارقة لأهم أحداث القرن المنصرم؛ تحوّلت الثورة الإيرانية عن طابعها المدني الديمقراطي والليبرالي الطامح إلى دخول العصر من أوسع أبوابه، إلى مشروع إسلاموي ثيوقراطي متطرف، راهن عليه واستلهم منه الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي كثيرًا، وتُوّج هذا المسلك بشعار تصدير الثّورة، ليصطدم بمحيطه العربي أولًا، وليُشكّل هاجسًا مرعبًا لأنظمة الخليج العربي (الذي دأب نظام الملالي على استخدام المفردة التي كان يرددها نظام الشاه تحت عنوان الخليج الفارسي)، وللعراق المجاور؛ ما دفع صدام حسين إلى شنّ حربٍ دامت ثماني سنوات، أتت على الأخضر واليابس من مقدرات كلا البلدين: الاقتصادية والبشرية والمالية، في مدةٍ ساوت زمني الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحين استُنزف الطرفان؛ قَبِل الخميني، مرغمًا على الالتزام، بقرار الهدنة الصادر عن الأمم المتحدة في 20 آب/ أغسطس 1988 والتي وصف قبولها كمن يتجرع كأسًا من السم (اعتبرت هذه الحرب من أطول الحروب التقليدية في القرن العشرين، وقد أدّت إلى مقتل زهاء مليون شخص من الضحايا، وخسائر مالية تُقدّر بحوالي 1.19 ترليون دولار).
على الرغم من التكاليف الباهظة لهذه الحرب الهوجاء، فإن ملالي طهران ظلوا يعملون، بعناد، على تصدير نموذجهم تحت شعارات واهية وتضليلة: “تحرير فلسطين وبيت المقدس”، مستغلين الموقف غير الحازم للنظام العربي من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وهذا ما حداهم إلى التوسع غربًا، من خلال إنشاء وكيل لهم في لبنان، تحت مسمى “حزب الله”، وقد جاء في البيان الصادر عنه، في 16 شباط/ فبراير 1985، أن الحزب “ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني، مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة”… وبعد سقوط النظام العراقي، في 9 نيسان/ أبريل 2003؛ أحكم الإيرانيون سيطرتهم على العراق بعد خروج الأميركيين، بالتعاون مع أهم أدواتهم “حزب الدعوة العراقي”، ليكتمل المشهد لاحقًا في تدخلهم السافر في سورية، والعمل على قمع ثورة الحرية والكرامة التي فجّرها السوريون عام 2011، والدفاع عن نظام منبوذ من قبل شعبه وفاقد للشرعية ومتصف بالفساد والاستبداد، ضاربين عرض الحائط بادعائهم أنهم ينتصرون دائمًا للمستضعفين في الأرض!
بعد ذلك، تمدد الإيرانيون نحو اليمن ليهددوا النظام السعودي، عبر خاصرته الجنوبية الغربية، فجلبوا الويلات لهذا الشعب العظيم الذي يعيش خطرًا وجوديًا حقيقيًا في هذه الفترة العصيبة والمفصلية من تاريخه المعاصر.
من أجل تعزيز النفوذ الإيراني (الذي غَضَّ الغرب الطرفَ عنه لأسباب غير مُقنعة)؛ عمل قادة طهران على مشروعهم النووي (وهو مشروع قديم جديد)، وقد ناوروا كثيرًا من أجل إنجاز القسم الأعظم منه بسريّة، إلا أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية وأجهزة الدول الكبرى كانت لهم بالمرصاد، حيث طالب مجلس الأمن الدولي إيرانَ -بناءً على تقارير الوكالة- بتعليق أنشطتها الخاصة بتخصيب اليورانيوم، لكن السلطات الإيرانية لم تمتثل لهذه المطالب؛ ما دفع مجلس الأمن إلى فرض عقوبات بحق إيران، وظل السجال محتدمًا طوال سنوات، إلى أن وصل روحاني إلى سدة الرئاسة في إيران عام 2013، وهو ذو النزوع المعتدل وصاحب الباع الطويل بالتفاوض مع الاتحاد الأوروبي بهذا الخصوص، وبعد مباحثات ماراثونية؛ توصلت كل الأطراف، في 2 نيسان/ أبريل 2015 (ممثلو إيران ودول الـ 5+1)، إلى اتفاق حول الخطوط الرئيسية، بما يتعلق بتجميد مؤقت لأنشطة إيران النووية.
كانت ردة الفعل الإسرائيلية غاضبةً من هذا الاتفاق، واشتغلت اللوبيات الداعمة لـ “إسرائيل” في الولايات المتحدة الأميركية، على إلغائه، إلى أن جاء إعلان المرشح الرئاسي دونالد ترامب ليطرح هذا الموضوع من جديد، إبّان حملته الانتخابية، متوعدًا بإلغائه حال فوزه، وهذا ما تمّ فعلًا بعد انقضاء سنة على ولايته، إذ أعلن في 8 أيار/ مايو الجاري، عبر التلفزة، قراره بهذا الخصوص؛ فكان القرار صفعة لحكام طهران، وإرباكًا في خطابهم الإعلامي، كونهم يعلمون أن القضية هي أبعد من إلغاء هذا الاتفاق، وأقرب إلى تطبيق أجندة محاصرتهم، والعمل على تقويض نظامهم الناشر للفوضى والفتنة في منطقة ملتهبة، من خلال طردهم من الإقليم العربي أولًا، وتعميق أزماتهم البنيوية المتفاقمة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وصولًا إلى تقويض أركان حكم ثيوقراطي استبدادي طائش، والعمل على تمكين فئات واسعة من الشعب الإيراني؛ للمساهمة من أجل الانتقال بإيران إلى دولة تجنح للسلم، وتتعامل مع محيطها على أساس من التعاون المتبادل، والتخلي عن أحلام إمبراطورية زائفة تجاوزها العصر منذ زمن بعيد.
مصطفى الدروبي
المصدر
جيرون