انتظر دمـوزي: لا تقل وداعًـا



نتساءل نحن -الدموزيين الذين صار قدرهم متعلقًا بالكتابة عن شؤون المسرح والعالم- عن الجدوى من تكرار الإجابات الموجودة سلفًا في الرفوف والمكتبات والجرائد، وعن الجدوى من الكتابة في عصرٍ لم يعد يقرأ فيه أغلب المسرحيين، ولا أغلب الكتاب أو النقاد! نتساءل -أيضًا- عن المنجز الكتابي الذي نفكر في كتابته كل مرة: أسيمثّل فعلًا نقديًا وتجاوزيًا أم هو محض خردة نصية، وحتى إذا ما كنا سنقدّم بديلًا جديدًا أو مولودًا كتابيًا مخالفًا، فهل ذلك سيعني نجاحه في زمن تسوده ثقافة ودعاية رخيصة لكل ما هو مبتذل ومنحط؟

يبدو واضحًا أن لا مناص لنا غير أن نكتب غضبيًا، أن نتحول إلى ما يشبه القتلة، أو الإقامة في معجم الضغينة، كأن نصنف الكل في مطابخ مجزرة هذا القرن العفن. نحن بهذا الشكل سننعطف لا إلى قافلة الكره التي قطعت أوصال جدنا الأول دموزي، ولا إلى الدفاع عن إمكانية مولد التراجيديا من جديد، ولا إلى معاجم الخصب والانبعاث والحياة والحب، بل إلى وحشيته وضراوة وجوده. ربما بإزاء هذا السياق، نصبح على يقين داكن السواد، أنه لم يغادر المدينة، ولم يخن الإبداع المسرحي ولم يخرج من ملتنا، ولكنه يا للأسف!!! تمّ تجريده من كل إحساس باخوسي صاحبه منذ أزمنته القديمة، كما تم طرده من مدننا التي طردت الشعراء، بعد أن استقبلت الأرذال من المثقفين، تجار الكلمات ومهربي الزرنيخ. هم قتلة بلا ريب، لكن من نوع آخر، لا مرئي، حتى إن ما يقدم لنا الآن من عروض مسرحية بات يُعد مسخًا إبداعيًا محضًا، وحتى إن المسرحيين في حد ذاتهم تحولوا إلى ما يشبه الجماجم المتحركة، تلك الجماجم التي فقست فيها عناكب من فصيلة مصاصي دماء ذلك الجد دموزي.

لقد أصبحت المدينة مصنعًا “تسيره آلة اسمها الله”، واسمها الحزب، واسمها المال، وهكذا أصبح المسرح في قبضة هؤلاء جميعًا، أما أولئك الذين يصرون على المقاومة فهم الآن أشبه بالثكالى، يبكون غيبة دموزي الطويلة. وكي نوضح أكثر: لم يتبق في مسرحنا سوى الجانب المظلم من ذلك الإله، حيث تطفو غريزة الكره والضغينة والقتل وشهوة الكارثة، أما الحب والتوهج والرغبة في محاكاة الهلع اليومي لهذا القرن، والقفز إلى معادلة ثالثة تتخطى خطوط الدائرة القائمة، فمحض حنين لا أكثر، حنين نحن نكتشفه على ألسنة المسرحيين، وهم يدلقون في أفواههم سوائل رديئة من الخمر، بينما تنداح لعناتهم أمام الوزارات وغضبهم المستمر مثل الرجال الجوف. هكذا صار مسرحنا عاجزًا عن تقديم سردية ما، وبخاصة بعد أفول السرديات الكبرى. ألم يصرخ إميل سيوران في وجوهنا بالقول: “على الدراماتورج الجيد أن يمتلك حس الجريمة. ترى هل ثمة اليوم بعد الإليزابيثيين من ظل يحذق قتل شخوصه؟”. ربما نحن نرتجف الآن رعبًا حين نعترف وبشكل مفرط بمرارة بنهاية التراجيديا، وبنهاية رغبتنا في مقاومة سياسات الالتباس والخراب والتدمير المنهجي لشتى ضروب حياتنا.

من الواضح الآن أن كل من سيمسك بالقلم ليكتب عن هذا العزاء الأنطولوجي العنيف، ولا يصنف نفسه من أحفاد ذلك الإله الغابر، لن يكون إلا في صف القتلة، ومن الواضح أيضًا أننا نبتلي الآن بهذا الجد؛ إذ لم يتبق لنا منه غير شهوة آثمة للموت. وعلى العكس، فرغم طرده من المدينة ظل في أحراشها، وظل يتقدم بيننا في صورة وحش هجين، دامي القدمين، أشعث الشعر، غائر العينين مثل حطام جثة متفحمة، دون أن ندرك أنه هو، أما الدمويون الذين شرعوا مأساته، فقد دفعوا بالمدينة نفسها، لتتحول إلى مسرح للجريمة وسلخ الحيوانات البشرية!

أن نتورط في الكتابة، فهذا يعني إيماننا العميق بضرورة العصيان؛ إذ ندرك أنه “إذا أمكن لنيتشه، بروست، بودلير أو رامبو، أن يتصدوا لتقلبات الموضة، فإنهم مدينون بذلك إلى وحشيتهم اللامبالية، إلى جراحاتهم الشيطانية، إلى سخائهم بالسم. ما من شيء يجعل أثرًا يدوم ويمنعه من التقادم سوى شراسته”. وأن نكتب فإننا نعلن انتسابنا المتعصب إلى ذلك الإله، وبشكل متطرف بالغ الصفاقة والازدراء، من كل قارئ سيقرأ ما نكتب، وبشكل عنيف ومخرب أيضًا. تقودنا سوداوية المدينة إلى عتمة أكثر سوادًا، كأنْ نذهب بعدمها إلى أقصاه. علينا في المقابل ألا نتشبه بأولئك الكتّاب من جهة استنساخهم في دمنا؛ فما يحركنا الآن شيء سوى ضراوة الانتساب إلى إله غابر ومنسي، ولأنه ميت في حدائقنا، لن نصدق ما قاله آلان باديو: “الحب هو ما يقاوم الموت”، ولن نصدق ما قاله جيل دولوز: “إن الفن هو ما يقاوم الموت”، فنحن الآن منفيون بقوة رهيبة تقودنا إلى الهلاك، بعد أن تمّ تجريدنا من الحب كما الفن، وسُلخنا عن النوع البشري، أما ما تبقى لنا، فليس سوى روائح الإسفلت وعظام متلاصقة كالسلالم، هاربة من رعب نشرات الأخبار والجوع والحروب.

نتساءل للمرة الألف: ماذا يمكن أن نكتب، أيها الإله المطحون في كتابات المتاجرين باسمه؟

أن نكتب هو أن نستبدل مبادئ آلان باديو وجيل دولوز دون خوفٍ أو وجلٍ، أن نصرخ بالقول: “التخريب هو ما يقاوم الموت”، لأننا بهذا الشكل لن نخرب إلا الموت عينه: موت الإبداع في أعمال المسرحيين من أجل المسرح والمسرحيين، وموت التراجيديا في زمن نهاية السرديات من أجل التراجيديا، وموت الحب في العالم دفاعًا عن حبنا للحياة والعالم، وموت السائد من أجل جراحات تحرر المستقبل، وموت السلام في عصر الحروب من أجل الأمان والسلام عينه. أن نخرب، فهذا لا يعني عدميتنا، بقدر ما يعني تخريبنا للعدميات التي خربت إنسانيتنا.

فلا ترحل، ولا تقل وداعًا، أيها الإله المسمى دموزي: فوحدك سيّد انبعاثنا!

* دموزي هو إله الانبعاث، وله أسماء أخرى مثل تموز


حاتم محمودي


المصدر
جيرون