الاستراتيجية الأميركية ونهاية أحلام ولي الفقيه



لم تتوقف القيادة الأميركية، بعد انتخاب ترامب، عن تكرار القول باستراتيجية مختلفة عن سياسة أوباما، وبأن على إيران أن تتوقف عن سياستها التوسعية، والعودة إلى حجمها الطبيعي. لم يفهم قادة إيران هذه الفكرة، ولكن الانسحاب من الاتفاق النووي، والتوافق الروسي الإسرائيلي على حرية “إسرائيل” بقصف كل المواقع الإيرانية في سورية، يضع نهاية للتحالف الإيراني الروسي في سورية، ويفتح الطريق نحو توافقات روسية أميركية، تخص سورية وربما منطقتنا بأكملها.

النقاش في روسيا عن القوات الأجنبية التي عليها الانسحاب من سورية، في الأيام الأخيرة، يكمله ما أعلنه بومبيو وزير خارجية أميركا من شروطٍ 12، وتكمن ماهيتها الأساسية في أن على إيران أن تعيد صياغة كل نظامها، وليس فقط تدخلها في المحيط الإقليمي؛ التوافق الأميركي الروسي على هذا الموقف يُخيف إيران ويدفعها إلى الاحتماء بأوروبا، والبحث عن مساومات جديدة ترضي بها أميركا. القنابل الصوتية التي يطلقها قادة إيران ضد أميركا يُكذبها رعبهم من الحصار الأميركي، الذي سيشتد في الأشهر القادمة، وهناك الأزمة الاقتصادية والسياسية العميقة في إيران، التي تجلت بثورتين في 2009 ونهاية 2017.

هناك أسباب سورية للتباعد بين روسيا وإيران؛ فروسيا متضرّرة من إيران، بسبب منافستها إياها على الثروات الباطنية وعقود إعادة الإعمار، وهناك خرائط النفوذ التي تَشكّلت، وهي تنفي أي مبررات لبقاء الميليشيات الإيرانية؛ فمحيط دمشق أصبح خاليًا من الفصائل وكذلك حمص وحماة، وهناك استقرار في درعا وحلب. القصد أن تركيا رسمت خريطتها في سورية وكذلك الأميركان وأيضًا الروس، وبالتالي فإن الخطوة التالية هي التوصل إلى توافقات تحدّد كيفية الانتقال مما رسُمت عليه الوقائع إلى الحل السياسي والعلاقة بين “السوريات” الثلاث. إيران فقط لا أماكن محدّدة لها في سورية، وهي متواجدة في مناطق التواجد الروسي أو مناطق النظام. تواجدها هذا يرفضه الروس، وربما هذا سبب استدعاء الرئيس السوري، والتوضيح له بأنه من غير المسموح به مستقبلًا إقامة علاقات قوية مع إيران، وأن شكل وجود الإيرانيين في سورية يقرّره الروس بالتحديد.

الاستراتيجية الأميركية الجديدة تؤكد تحجيم إيران في كل المنطقة العربية؛ أي أن ألاعيب إيران، وتسهيل احتلال أميركا لأفغانستان وللعراق، وكذلك المساهمة في تحجيم (داعش) في العراق وسورية، لم تعد كافية للأميركيين. تنبني هذه الاستراتيجية الأميركية على أرضية تفكك العراق وسورية واليمن وليبيا، واستنزاف الخليج عبر صفقات السلاح وعبر صفقة القرن الأميركية لجعل القدس عاصمة لـ “إسرائيل”، واتفاقيات سلام مع كافة الدول العربية، ومنها النظام السوري الحالي. مشكلة إيران أنّها توهمت أن الأميركيين سيعتمدون عليها كشرطيّ للمنطقة، كما كان دور الشاه قبل 1979، وهي بالأيديولوجيا ذاتها، وبالشكل السياسي للحكم ذاته؛ لم تفهم إيران أن أميركا، وروسيا كذلك، لا تسمحان لها بأن تصبح دولة إقليمية. نعم إيران تنافس أميركا وروسيا في كل من العراق وسورية وسواها. هناك جملة معطيات تسمح للأميركيين بفك العلاقة مع إيران، ومحاصرتها. هل تفيد حياكة السجاد التي يشتهر بها الإيرانيون، كدليل على خبثهم ودهائهم بالسياسة، في إخراج إيران من نتائج تصاعد الحصار الأميركي؟

الاستراتيجية الأميركية أعلنت بوضوح أن على إيران العودة للداخل الإيراني، والتراجع عن الشعور بالنشوة في احتلال أربع عواصم عربية! الروس أعلنوا أنهم لن يدافعوا عن إيران، ومجرد سماحهم للإسرائيليين بقصف كل مواقعهم في سورية يوضح أن تحالفهم مع إيران له حدود، وأن وجودهم ذاته في سورية سيكون بالتوافق مع الأميركان والإسرائيليين.

هنا سيكون التساؤل: هل يمكن لدولة وليّ الفقيه، وهي الدولة التي تحكمها عدة مافيات، أن تتراجع عن أوهامها المذكورة وبرنامج السلاح النووي والباليستي؟ إيران التي فشلت فيها ثورتان، هل يمكنها الانصياع للأميركيين؟

لا شك أن قادة إيران في وضعيةٍ داخلية وخارجية كارثية بكل معنى الكلمة؛ فداخليًا هناك أسباب لتجدّد الثورة الشعبية والسياسية، وإقليميًا هناك مليارات دفعتها دول الخليج لإحكام الحصار عليها، وهناك “إسرائيل” المتضررة من “حزب الله” خاصة ومن برامجها التسلحية. هذه الوضعية تفرض على قادة إيران إدارة الظهر لكل مشاريعهم التوسعية والتسلحية، وتقديم مساومات كبرى لإنقاذ أنفسهم من السياسة الأميركية الجديدة.

تصدير الثورة والأزمات إلى الخارج انتهى. الفساد يعمّ كل مؤسسات النظام، ويطال المرشد ذاته. إيران التي فيها جيشان: جيش نظامي والحرس الثوري، ربما يتصارعان مع تصاعد الحصار، دولة كهذه لا يمكنها مواجهة كل هذه الأزمات مجتمعة، وبالتالي ربما لن تغيّر من استراتيجيتها بالتوسع، وستناور طويلًا. الأوروبيون يساعدون في ذلك، ويناورون للتحايل على الأميركيين. أوروبا العجوز هذه، والساعية لجني مليارات الدولارات، ليس بإمكانها معارضة أميركا طويلًا، أي أن عدة أشهر إضافية ستُنهي كل محاولات أوروبا وإيران للوقوف في وجه النسر الأميركي، وبالتالي سيكون على إيران تغيير ذاتها.

في نقاش الموقف من إيران، يصبح من العبث الكلام عن تحالف سري، بين “إسرائيل” وإيران وأميركا، ضد العرب. هناك التقاء في المصالح في قضايا محدّدة كما في حالة الحرب ضد أفغانستان أو العراق أو (داعش)، وربما توريد السلاح لها، ولكن تلك القضايا ليست أساسية، وهي عرضة للانفكاك، كما تم مع سياسة ترامب.

لا شك أن القيادة الإيرانية تتمتع بدهاءٍ كبير، وتوسعها في الدول العربية كان عبر تشييع العرب وفقًا للرؤية الإيرانية، ولديها ميليشيات شيعية كـ “حزب الله” و”الحشد الشعبي” والحوثيين، وهؤلاء يمكنهم “المشاغبة” حينما يتصاعد الحصار، وربما ستدفع بتشكيل حركات جهادية جديدة، وربما ستعتمد التفجيرات الواسعة في العراق وسورية واليمن، أي تعمل على خلق حالة عدم استقرار، في كل الدول التي تحاول أميركا طردها منها.

انتهت مرحلة وليّ الفقيه، وكل الكلام عن دولة إيرانية دينية؛ فأزمات إيران تتطلب انكفاءً للداخل، وتغييرًا كاملًا في نظام الحكم والسياسات الإقليمية، وتخفيف أسباب الثورة الشعبية والسياسية التي تتفاقم على نار الفساد والنهب المنظم والتطييف. إيران قابلة للثورة، وللتشظي، بسبب الظلم القومي، وللصراع الداخل بين “جيوشها”. إيران ليست عصية على الثورة، وقد حدثت فيها وستتكرّر.


عمار ديوب


المصدر
جيرون