on
“عفّشوا” وطناً
رغم أنه بات مشهد أكثر من مألوف، في “سورية المتجانسة”، إلا أن الكثيرين استهجنوا “تعفيش” وسرقة “رجال الأسد” أطلال ما بقي من أبنية مخيم اليرموك في دمشق، الذي كان يقطنة نحواً من مليون من السوريين والفلسطينيين.
هذا الاستهجان يدعو بدوره للاستهجان، وللاستغراب من المفاجئة والصدمة التي بدت على وجوه السوريين، وعلى جدران صفحاتهم في مواقع التواصل الإلكتروني، وفي وسائل الإعلام، محلية كانت أم عربية، ذلك أنه فعلٌ ليس خارجاً عن المألوف في هذا الزمن السوري الرديء.
منذ خمسة عقود، بسطت المؤسسة الأمنية نفوذها على كل أجهزة الدولة، وإدارات الشركات الإنتاجية والخدمية والاستثمارية، ومنح الأسد -الأب والابن- امتيازات وتسهيلات مالية استثنائية لأفراد أسرتهم ولرجالهم، وأصبحت الشركات والمؤسسات الكبيرة حكراً عليهم، و”عفّش” نظامهم مناقصات الدولة التي كانت تُمنح لهم بالتراضي، ولم يحاسبهم القانون على كل التجاوزات القانونية التي قامواً بها علناً، وأجّروا الأبنية الحكومية الضخمة للمقربين من أسرتهم بأسعار رخيصة، ووُزّعوا عليهم الفيلات والبيوت والسيارات والمزارع التي “عفّشواها” من الدولة مجاناً كهدايا.
نعم… “عفّش” النظام السوري سورية كلها، فصارت له شركات الاتصالات، والمناطق الحرة والأسواق الحرة الخاصة، وشركات الطيران الخاصة، ومحطات توليد الكهرباء الخاصة، وموانئ التهريب الخاصة، كما “عفّش” المناطق التنظيمية الواسعة وباعها وجنى ثروات، وتلاعب بالنظام القضائي لتفصيل قوانين تُناسب امبراطورياته وامبراطوريات رجاله المالية، كما “عفّش” التعليم العام ودمّره ليفتتح رجاله مدارسهم الخاصة باهظة التكاليف، ومنع إنشاء الفنادق ما لم يكن شريكاً فيها، و”عفّش” أيضاً عطاءات الدولة ومناقصاتها، وعطّل المنح الدولية التنموية لعدم تقاضيه رشوات عليها، و”عفّش” مع أسرته آثار سورية وباعها للخارج، وحوّل رونق دمشق القديمة إلى ساحة مطاعم، هذا طبعاً غير “تعفيشه” للبنان بحجة الصمود والتصدي، و”تعفّيشه” للمساعدات الخليجية لـ “دولة المواجهة”، و”تعفّيشه” لأموال “النفط مقابل الغذاء” العراقية.
“عفّش” النظام السوري سورية كلها، فأصبحت في ذيل ترتيب منظمة الشفافية الدولية، واعتلت عرش الفساد العالمي، وصار 2% من الفاسدين يستحوذون على 98% من الثروة، وصار 50% من الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر، وخلال خمسين عاماً بلغ التهرب الضريبي 200 مليار دولار، وبلغت الأموال المنهوبة نتيجة الفساد التي هُرّبت إلى الخارج نحو نصف تيراليون دولار، ووفق تقارير (لوموند) و(الغارديان) و(غلوبس) وغيرها، بلغ ما تملكه أسرة الأسد أكثر من 250 مليار دولار، وابن الخال المذكور في (وثائق نبما) يمتلك وحده شركات تدرّ عليه ما يوازي 15% من الدخل القومي السوري.
“عفّش” النظام السوري الوطن والعقول والقيم والأخلاق، وجعل العمل صفقات واحتيال ونهب بدلاً من الجهد، ودمّر الطبقة الوسطى وقيمها ومواقفها، وزاد فقر الفقراء وغنى الناهبين، وألغى دور المؤسسات الرقابية التشريعية والقضائية، ومنع المجتمع المدني والإعلام من الرقابة، فأسس ليس فقط لبيئة “تعفيش” اقتصادي بل أيضاً لبيئة “تعفيش” سياسي وأخلاقي واجتماعي.
كل ما سبق معروف لغالبية السوريين، وتنتفخ ذاكرتهم بتفاصيله، لكن ما لا تُدركه قطعانه التي “عفّشت” منازل وأرزاق السوريين خلال السنوات السبع الأخيرة، أن النظام -الأب والابن- “عفّش” سورية كلها ورمى لهم الفتات، وحوّلهم إلى وحوش قمّامة، تبحث عن الجيف لـ “تُعفّشها”، ولن يذكرهم التاريخ، طائفة كانوا أم ملّة أم جماعة، إلا كوحوش قمّامة اعتاشت على الأوساخ.
باسل العودات
المصدر
جيرون