on
من أين تأتي الرائحة النتنة؟
محمد
حكاياتمقالات بارزة من أين تأتي الرائحة النتنة؟
بدأ الشباب والرجال يتبولون في ثيابهم وهم يبكون واحداً تلو الآخر. لم يعد أحمد يطيق الرائحة، تمنى لو كان معه قنينة لكل رجل تريحه من مهانة اللحظة. بعد قليل، تبوّل على نفسه هو الآخر، ولم يعد يشم شيئاً، أو يشعر بأي خجل، لكنه اشتم رائحة نتنة وهو ينظر إلى حملة البنادق يطوفون حول الباص ويقهقهون.
29 مايو 2018
(لوحة من تصميم كوميك لأجل سورية، وهي رسمت خصيصا لهذه المادة/ خاص حكاية ما انحكت) أليس الشاميكاتبة سورية (الاسم مستعار)
(تنشر هذه الحكاية بالتعاون مع راديو سوريالي، ويمكنكم متابعة الحلقة ضمن برنامج حكواتي سوريالي)
في باص النقل الداخلي الأخضر الممتلئ بأكثر من مئة وخمسين شاباً ينتظرون المجهول، والخارج من الغوطة الشرقية (حمورية) نحو أحد مراكز الإيواء الواقعة تحت سيطرة النظام السوري (آذار 2018)، حاول أحمد (اسم مستعار) عبثاً أن يتخذ لنفسه زاوية يخرج فيها أنفه من فتحة صغيرة في الشباك لم ينتبه إليها العسكري. فقد كانت رائحة البول والعرق والأنفاس النتنة تفقده وعيه.
نشأ أحمد يتيم الأب، ووحيداً، لم يكن له إخوة أو أخوات. كانت أمه التي رفضت الزواج مرة أخرى رفيقة عمره. ولم يرث عنها عينيه السوداوين ولون شعره الكستنائي ونعومة يديه فحسب، وإنما ورث عنها هوسها المفرط بالنظافة، إذ لا تزال كلماتها تطن برأسه: "مو مشكلة تلبس واعة قديمة، المشكلة تلبس واعة وسخة"، "لو كنت ملك جمال وريحتك طالعة كل الناس بتنفر منك" و"لا تجبلي كنة وسخة، والله بقتل حالي".
كانت سمية، أم أحمد (اسم مستعار)، تقضي نصف وقتها في المنزل، وهي تغسل وتنظف وتعقم. وكانت تقضي النصف الآخر، وهي تفكر كيف تحافظ على نظافة بيتها وثيابها وثياب ابنها. كانت رائحة الصابون المنبعثة من منزلها في الطابق الرابع تصل إلى المارة في الشارع. يتذكر أحمد تفاصيل حمام والدته له عندما كان طفلاً، إذ كانت تحمّمه عدّة مرات بصابون الغار، وتكيّسه وتليفه، مرة لإزالة الجلد الميت ومرتين ليلمع جلده، وتنهي الحمام بالشامبو الألماني ذي الرائحة الطيبة.
وعندما تغيّر جسم أحمد لدى بلوغه وزادت إفرازات جسمه العرقية، كانت سمية تشم تحت إبطه بعد الحمام الذي أصبح مسؤوليته وحده، وكثيراً ما أجبرته على إعادة الحمام في حال كانت فروة رأسه أو تحت إبطه تصدر رائحة لا تعجبها. لكنها كانت مطمئنة بشأن عنايته بنظافة أعضائه التناسلية. لم يكن من السهل عليها كأم أن تعلّم صبيها كيف ينظف ثنايا خصيتيه ويتخلص من البول الزائد في قضيبه، لكنه كان شراً لا بد منه في غياب أبيه.
0:00 0:00 if (Inkube) Inkube.Players.refresh()ثم شب أحمد، ودخل الجامعة، وأصبح يغيب من الصباح إلى المساء، ويعود آخر الليل، أحياناً وحده، وأحياناً مع أحد أصدقائه. وظلت سمية تفتش خلف نظافة الجميع. وتعطي رأيها بمن يصاحب ابنها بناء على انطباعها الخاص بنظافتهم ورائحتهم وخلو ثيابهم من البقع: "تذكر يا ابني، النضيف من برا بيكون نظيف من جوا. مو قاعدة، بس غالباً. بقا الله يرضى عليك خلي الناس تحكي بنظافتك لانو هاد دليل إنك نضيف من جوا وبتحترم الآخرين، لإنو ما حدا مضطر يشم النشح ويتعامل مع القرف".
في رمضان كان أحمد يحمل معه فرشاة أسنان في حقيبته. كانت هذه عادة أمه، فـ "ما حدا مضطر يشم ريحة تمك الفطايسية إذا كنت عم تتعبد ربك"، كانت تقول له.
النظيف من الخارج نظيف من الداخل، والنظيف من الداخل لا يرضى بظلم أو مهانة. الخيار واضح وضوح الشمس.
هكذا كانت أم أحمد. كان منزلها أنظف منزل في الحارة، ولم تذهب جهودها هباء في جعل أحمد مضرب المثل في الأناقة والنظافة هو الآخر أينما حل. في الثانوية، وفي كلية الأدب العربي، وفي السوق، وفي الجلسات العائلية وقعدات الأصدقاء.
لم يكن من السهل على أحمد أن يكون مصاباً بوسواس النظافة هو الآخر. كان أنفه حساساً كأنف أمه، كان لا يطيق الروائح المزعجة، كان يرتدي كمامة عندما يمر من مكبّ القمامة، وكان يبتعد عن التجمعات الكبيرة، خاصة في فصل الصيف. كان يفضّل أن يعود مشياً على الأقدام من أن يركب وسيلة نقل مزدحمة ويتلاصق بجسمه مع آخرين لا يعرفهم.، ولم يستطع تقبيل الفتاة التي أحبها في السنة الجامعية الأولى، ليس لأسباب دينية واجتماعية، مع أنها كانت حجته، ولكن لأنه شعر بالقرف من العملية. قرف تجاوزه في السنوات اللاحقة بعد أن تحدّى نفسه قائلا: "إذا بضل قرفان بحياتي ما بجيب ولاد".
لكن معاناته الكبرى كانت في استخدام حمام خارج المنزل. تلك مسألة لم يستطع أن يتجاوزها، لا في المدرسة ولا الجامعة ولا في المدرسة التي عيّن فيها معلماً. رائحة خراء الآخرين التي تفوح من المرافق العامة كانت تصيبه بالدوار وتمنعه حتى من التبوّل. وكان يرغم نفسه على الانتظار حتى يعود إلى المنزل ولو دام انتظاره عشر ساعات أو أكثر، فذلك أرحم من تجربة الحمام العام.
بعيدا عن البيت النظيف
في منتصف عام 2011، شارك أحمد في مظاهرة سلمية في حارته. وعندما بدأ رجال الأمن يركضون بجنون وراء الشباب ركض أحمد ووقع على الأرض الترابية عدّة مرات. وعاد إلى البيت بقميصه الأبيض وقد ملأه طين الترابِ والعرقِ. رغم أنّ مجرّد عودة أحمد إلى البيت سالماً كانت امتيازاً، إلا أنّ خوفه من زعل أمه عندما ترى ثيابه المتسخة كان قد طغى على كل إحساس بالنجاة.
لكن أمه لم تدر بالاً لثيابه، بل ضمته بوسخه إلى صدرها المغطّى بغطاء الصلاة ناصع البياض، وهي تحمد الله على سلامته وتلعن الساعة التي قرّر فيها الالتحاق بركب الثورة مع أصدقائه وجيرانه. لكن ما كان من الممكن أن تقنع ابنها بالعدول عن مساره. فالنظيف من الخارج نظيف من الداخل، والنظيف من الداخل لا يرضى بظلم أو مهانة. الخيار واضح وضوح الشمس.
وأتى يوم اعتقل فيه أحمد. اعتقل في الساعة السابعة صباحا من بيته. سمع عويل أمه في الخلف وهو مغطى الرأس. لم يهتم بالركلات واللكمات، ولا بطعم الدم في فمه، ولا بتفتيشه عارياً ولا بشبحه لساعات طويلة، تعوّد على رائحة العرق والدم والقيء والبول في الزنزانة التي حشر فيها عشرات مثله. لكن الأمر الذي لم يستطع أن يتجاوزه هو مرحاض الزنزانة. هنا كان يتوقف دماغه عند محاولة التأقلم. في اليوم الأول لم يستطع أحمد التبول، كان المرحاض إفرنجياً بمقعد، لو كان مرحاضاً أرضياً لكان ذلك أسهل له، فكر أحمد. كان يستخدم المرحاض أكثر من 40 شخصاً، لم يكن السيفون يعمل، كان هناك طشت ماء بجانب المرحاض يستخدم بدلاً من السيفون، ونادراً ما كان يخلو من قطعة خراء طافية. كان لون المرحاض من الداخل بنياً مخضراً، ورائحته أشبه بالجثث المتفسخة. كان منظر المرحاض كابوساً بالنسبة لأحمد، ما عدا استخدامه.
في الأربعة أيام الأولى من اعتقال أحمد لم يأكل شيئا خوفاً من أن يحتاج للتبرز في تلك الجورة الموبوءة. أحد الشباب استطاع تأمين قنينة لأحمد حتى يتبول فيها، لأنه عندما حاول الوقوف أمام المرحاض للتبول تقيّأ، وكاد أن يقع مغشياً عليه. كانت حالة أحمد مدعاة للسخرية من قبل النزلاء الآخرين، لكنهم سرعان ما استوعبوا كم كان الوضع حرجاً عندما كاد جسد أحمد أن يتسمّم بسبب عدم قدرته على التخلص من فضلاته. أصبحت القنينة مرحاض أحمد الذي يتبول فيه، لكن مشكلة التبرز ظلت بدون حل، إلى أن ابتكر طريقة يجلس فيها على المرحاض دون أن يلامس المقعد، معتمداً على عضلات فخذيه، وتعلم أن يحبس نفسه لدقيقتين كاملتين ينهي خلالهما العملية بسرعة. لم يكن الصابون متوفراً وكان الغسل بالماء فقط، حتى ماء غسل اليدين والتشطيف كان قذراً كريهاً.
بعد شهرين خرج أحمد من المعتقل، وعاد إلى منزل والدته التي كانت قد كبرت عشر سنوات في غيابه. وقطع على نفسه وعداً بأنه لن يسمح لأحد أن يسلب منه حق قضاء حاجته في مكان نظيف وتشطيف قفاه بماء صاف.. لن يسمح لأحد بأن يعامله كبهيمة تنام فوق روثها.
ثم خرجت المنطقة (حمورية) التي يعيش فيها أحمد وأمه عن سيطرة الدولة، لصالح سيطرة المعارضة المسلحة (فيلق الرحمن). وأصبح في مأمن من الاعتقال مجدداً. لكن قطع المياه، والحصار وشح المواد أوقع أم أحمد في مشكلة جديدة. لم يكن لديها مشكلة في أن تأكل أي شيء. لكنها لم تعد تجد مواد تنظيف فعالة. كل شيء أصبح غالي الثمن ورديء النوعية. كان أحمد لا يزال يدرّس في المدرسة نفسها، وكان راتبه لا يكفي طعام أسبوع، كان كثيرون من أصدقائه قد أصبحوا مقاتلين مع الكتائب المسيطرة على المنطقة. لكنه كان قد قطع وعداً لنفسه ولأمه بأن لا ينخرط مع أي طرف مسلح. كان عندما يفكر في الأمر، يشم رائحة نتنة لايعرف ما هو مصدرها. بدأ أحمد وأمه يبيعان ما في بيتهما من أغراض ذات قيمة، لم تعد رائحة المنزل الفواحة تصل إلى نهاية الشارع، لكنه ظل أنظف بيت في الحارة رغم كل شيء. كانت أم أحمد تقول: "الفقر ليس حجة للوساخة. ممكن تكون فقير بس نظيف ومرتب". لكن أحمد كان يدرك أن وسواس أمه القسري لا يدع لها مجالاً للتفكير المنطقي.
كانت احتمالات الاعتقال والإذلال والإعدام الميداني أهون على الجميع من لملمة أشلاء الاطفال الذين يدفعون خيارات الآخرين. لم يكن ثمة خيار آخر على كل حال، فقد باتت الهزيمة واضحة.
تحت القصف المستعر، كانت أم أحمد التي بدأ الكبر والحصار يفقدها عقلها، تنشر الغسيل الذي لم يعد ناصع البياض كما كان من قبل. حملها أحمد بسرعة ونزل فيها إلى أحد الملاجئ. كانوا مئتين وخمسين رجلاً وطفلاً وامرأة، يستخدمون حمامين اثنين. تذكر أحمد القنينة، والوعد الذي قطعه على نفسه. كان ينتظر حتى يهدأ القصف ويخرج إلى منزله ليقضي حاجته بهدوء، وهو يشعر بالانتصار على من يريد أن يسلبه هذا الحق، ثم يعود إلى الملجأ. في الملجأ كانت والدته قد شكلت فريقاً من النساء المسؤولات عن تنظيف المكان. لكنه مع ذلك تابع الخروج إلى المنزل في لحظات الهدوء حتى يستخدم مرحاضه الخاص. وبعد أسبوع خرج إلى منزله ولم يجده. فكان مضطراً لاستخدام المرحاض المشترك.
أتى خبر سيطرة النظام وانسحاب الكتائب المسلحة كالصاعقة على الملجأ. لكنه كان أفضل من الموت تحت الأنقاض بعد حملة القصف المرعبة بكافة أنواع الأسلحة على الأحياء بمن فيها. كانت احتمالات الاعتقال والإذلال والإعدام الميداني أهون على الجميع من لملمة أشلاء الاطفال الذين يدفعون خيارات الآخرين. لم يكن ثمة خيار آخر على كل حال، فقد باتت الهزيمة واضحة.
كان الاتفاق الذي تم بين النظام وفيلق الرحمن، يقضي بأن يخرج المقاتلون إلى الشمال السوري، وأن يسلم الأهالي أنفسهم ليتم فرزهم إلى مراكز الإيواء. ضمّت أم أحمد ابنها الوحيد وهي تتمتم بكلمات ذاهلة غير مفهومة. لم تكن رائحتها طيبة كما اعتاد أحمد. لكنه قبّل رأسها مودعاً وهو يعرف أنّ الشباب لن يعاملوا كم ستعامل النساء والأطفال، حتى من تثبت سلميتهم، أو عدم مشاركتهم بنشاط ثوري أو معارض.
عند المعبر، أمسك الجنود بعشرات الشباب وحشروهم في باصات مهترئة. باصات المسلحين شقت طريقها إلى الشمال. النساء والأطفال جمعن ونقلن إلى مكان آخر. أما باص أحمد وعدة باصات أخرى فظلت واقفة حتى يتم التأكد من هوية الجميع ووضعهم الأمني. بعد عدة ساعات بدأ الرجال يطالِبون بالنزول من الباص لقضاء الحاجة. لم يستجب العساكر، وضربوا الرجال بأخمص البندقية. أحد الرجال تبوّل على نفسه وبكى بصوت عال. ضحك الجنود. بدأ الشباب والرجال يتبولون في ثيابهم وهم يبكون واحداً تلو الآخر. لم يعد أحمد يطيق الرائحة، تمنى لو كان معه قنينة لكل رجل تريحه من مهانة اللحظة. بعد قليل، تبوّل على نفسه هو الآخر، ولم يعد يشم شيئاً، أو يشعر بأي خجل، لكنه اشتم رائحة نتنة وهو ينظر إلى حملة البنادق يطوفون حول الباص ويقهقهون.
شارك المقالة مقالات متعلقة الوسوم: الحرب الحصار النظام السوري .entry-content{ text-align: justify; }(تنشر هذه الحكاية بالتعاون مع راديو سوريالي، ويمكنكم متابعة الحلقة ضمن برنامج حكواتي سوريالي)
في باص النقل الداخلي الأخضر الممتلئ بأكثر من مئة وخمسين شاباً ينتظرون المجهول، والخارج من الغوطة الشرقية (حمورية) نحو أحد مراكز الإيواء الواقعة تحت سيطرة النظام السوري (آذار 2018)، حاول أحمد (اسم مستعار) عبثاً أن يتخذ لنفسه زاوية يخرج فيها أنفه من فتحة صغيرة في الشباك لم ينتبه إليها العسكري. فقد كانت رائحة البول والعرق والأنفاس النتنة تفقده وعيه.
نشأ أحمد يتيم الأب، ووحيداً، لم يكن له إخوة أو أخوات. كانت أمه التي رفضت الزواج مرة أخرى رفيقة عمره. ولم يرث عنها عينيه السوداوين ولون شعره الكستنائي ونعومة يديه فحسب، وإنما ورث عنها هوسها المفرط بالنظافة، إذ لا تزال كلماتها تطن برأسه: "مو مشكلة تلبس واعة قديمة، المشكلة تلبس واعة وسخة"، "لو كنت ملك جمال وريحتك طالعة كل الناس بتنفر منك" و"لا تجبلي كنة وسخة، والله بقتل حالي".
كانت سمية، أم أحمد (اسم مستعار)، تقضي نصف وقتها في المنزل، وهي تغسل وتنظف وتعقم. وكانت تقضي النصف الآخر، وهي تفكر كيف تحافظ على نظافة بيتها وثيابها وثياب ابنها. كانت رائحة الصابون المنبعثة من منزلها في الطابق الرابع تصل إلى المارة في الشارع. يتذكر أحمد تفاصيل حمام والدته له عندما كان طفلاً، إذ كانت تحمّمه عدّة مرات بصابون الغار، وتكيّسه وتليفه، مرة لإزالة الجلد الميت ومرتين ليلمع جلده، وتنهي الحمام بالشامبو الألماني ذي الرائحة الطيبة.
وعندما تغيّر جسم أحمد لدى بلوغه وزادت إفرازات جسمه العرقية، كانت سمية تشم تحت إبطه بعد الحمام الذي أصبح مسؤوليته وحده، وكثيراً ما أجبرته على إعادة الحمام في حال كانت فروة رأسه أو تحت إبطه تصدر رائحة لا تعجبها. لكنها كانت مطمئنة بشأن عنايته بنظافة أعضائه التناسلية. لم يكن من السهل عليها كأم أن تعلّم صبيها كيف ينظف ثنايا خصيتيه ويتخلص من البول الزائد في قضيبه، لكنه كان شراً لا بد منه في غياب أبيه.
0:00 0:00 if (Inkube) Inkube.Players.refresh()ثم شب أحمد، ودخل الجامعة، وأصبح يغيب من الصباح إلى المساء، ويعود آخر الليل، أحياناً وحده، وأحياناً مع أحد أصدقائه. وظلت سمية تفتش خلف نظافة الجميع. وتعطي رأيها بمن يصاحب ابنها بناء على انطباعها الخاص بنظافتهم ورائحتهم وخلو ثيابهم من البقع: "تذكر يا ابني، النضيف من برا بيكون نظيف من جوا. مو قاعدة، بس غالباً. بقا الله يرضى عليك خلي الناس تحكي بنظافتك لانو هاد دليل إنك نضيف من جوا وبتحترم الآخرين، لإنو ما حدا مضطر يشم النشح ويتعامل مع القرف".
في رمضان كان أحمد يحمل معه فرشاة أسنان في حقيبته. كانت هذه عادة أمه، فـ "ما حدا مضطر يشم ريحة تمك الفطايسية إذا كنت عم تتعبد ربك"، كانت تقول له.
النظيف من الخارج نظيف من الداخل، والنظيف من الداخل لا يرضى بظلم أو مهانة. الخيار واضح وضوح الشمس.
هكذا كانت أم أحمد. كان منزلها أنظف منزل في الحارة، ولم تذهب جهودها هباء في جعل أحمد مضرب المثل في الأناقة والنظافة هو الآخر أينما حل. في الثانوية، وفي كلية الأدب العربي، وفي السوق، وفي الجلسات العائلية وقعدات الأصدقاء.
لم يكن من السهل على أحمد أن يكون مصاباً بوسواس النظافة هو الآخر. كان أنفه حساساً كأنف أمه، كان لا يطيق الروائح المزعجة، كان يرتدي كمامة عندما يمر من مكبّ القمامة، وكان يبتعد عن التجمعات الكبيرة، خاصة في فصل الصيف. كان يفضّل أن يعود مشياً على الأقدام من أن يركب وسيلة نقل مزدحمة ويتلاصق بجسمه مع آخرين لا يعرفهم.، ولم يستطع تقبيل الفتاة التي أحبها في السنة الجامعية الأولى، ليس لأسباب دينية واجتماعية، مع أنها كانت حجته، ولكن لأنه شعر بالقرف من العملية. قرف تجاوزه في السنوات اللاحقة بعد أن تحدّى نفسه قائلا: "إذا بضل قرفان بحياتي ما بجيب ولاد".
لكن معاناته الكبرى كانت في استخدام حمام خارج المنزل. تلك مسألة لم يستطع أن يتجاوزها، لا في المدرسة ولا الجامعة ولا في المدرسة التي عيّن فيها معلماً. رائحة خراء الآخرين التي تفوح من المرافق العامة كانت تصيبه بالدوار وتمنعه حتى من التبوّل. وكان يرغم نفسه على الانتظار حتى يعود إلى المنزل ولو دام انتظاره عشر ساعات أو أكثر، فذلك أرحم من تجربة الحمام العام.
بعيدا عن البيت النظيف
في منتصف عام 2011، شارك أحمد في مظاهرة سلمية في حارته. وعندما بدأ رجال الأمن يركضون بجنون وراء الشباب ركض أحمد ووقع على الأرض الترابية عدّة مرات. وعاد إلى البيت بقميصه الأبيض وقد ملأه طين الترابِ والعرقِ. رغم أنّ مجرّد عودة أحمد إلى البيت سالماً كانت امتيازاً، إلا أنّ خوفه من زعل أمه عندما ترى ثيابه المتسخة كان قد طغى على كل إحساس بالنجاة.
لكن أمه لم تدر بالاً لثيابه، بل ضمته بوسخه إلى صدرها المغطّى بغطاء الصلاة ناصع البياض، وهي تحمد الله على سلامته وتلعن الساعة التي قرّر فيها الالتحاق بركب الثورة مع أصدقائه وجيرانه. لكن ما كان من الممكن أن تقنع ابنها بالعدول عن مساره. فالنظيف من الخارج نظيف من الداخل، والنظيف من الداخل لا يرضى بظلم أو مهانة. الخيار واضح وضوح الشمس.
وأتى يوم اعتقل فيه أحمد. اعتقل في الساعة السابعة صباحا من بيته. سمع عويل أمه في الخلف وهو مغطى الرأس. لم يهتم بالركلات واللكمات، ولا بطعم الدم في فمه، ولا بتفتيشه عارياً ولا بشبحه لساعات طويلة، تعوّد على رائحة العرق والدم والقيء والبول في الزنزانة التي حشر فيها عشرات مثله. لكن الأمر الذي لم يستطع أن يتجاوزه هو مرحاض الزنزانة. هنا كان يتوقف دماغه عند محاولة التأقلم. في اليوم الأول لم يستطع أحمد التبول، كان المرحاض إفرنجياً بمقعد، لو كان مرحاضاً أرضياً لكان ذلك أسهل له، فكر أحمد. كان يستخدم المرحاض أكثر من 40 شخصاً، لم يكن السيفون يعمل، كان هناك طشت ماء بجانب المرحاض يستخدم بدلاً من السيفون، ونادراً ما كان يخلو من قطعة خراء طافية. كان لون المرحاض من الداخل بنياً مخضراً، ورائحته أشبه بالجثث المتفسخة. كان منظر المرحاض كابوساً بالنسبة لأحمد، ما عدا استخدامه.
في الأربعة أيام الأولى من اعتقال أحمد لم يأكل شيئا خوفاً من أن يحتاج للتبرز في تلك الجورة الموبوءة. أحد الشباب استطاع تأمين قنينة لأحمد حتى يتبول فيها، لأنه عندما حاول الوقوف أمام المرحاض للتبول تقيّأ، وكاد أن يقع مغشياً عليه. كانت حالة أحمد مدعاة للسخرية من قبل النزلاء الآخرين، لكنهم سرعان ما استوعبوا كم كان الوضع حرجاً عندما كاد جسد أحمد أن يتسمّم بسبب عدم قدرته على التخلص من فضلاته. أصبحت القنينة مرحاض أحمد الذي يتبول فيه، لكن مشكلة التبرز ظلت بدون حل، إلى أن ابتكر طريقة يجلس فيها على المرحاض دون أن يلامس المقعد، معتمداً على عضلات فخذيه، وتعلم أن يحبس نفسه لدقيقتين كاملتين ينهي خلالهما العملية بسرعة. لم يكن الصابون متوفراً وكان الغسل بالماء فقط، حتى ماء غسل اليدين والتشطيف كان قذراً كريهاً.
بعد شهرين خرج أحمد من المعتقل، وعاد إلى منزل والدته التي كانت قد كبرت عشر سنوات في غيابه. وقطع على نفسه وعداً بأنه لن يسمح لأحد أن يسلب منه حق قضاء حاجته في مكان نظيف وتشطيف قفاه بماء صاف.. لن يسمح لأحد بأن يعامله كبهيمة تنام فوق روثها.
ثم خرجت المنطقة (حمورية) التي يعيش فيها أحمد وأمه عن سيطرة الدولة، لصالح سيطرة المعارضة المسلحة (فيلق الرحمن). وأصبح في مأمن من الاعتقال مجدداً. لكن قطع المياه، والحصار وشح المواد أوقع أم أحمد في مشكلة جديدة. لم يكن لديها مشكلة في أن تأكل أي شيء. لكنها لم تعد تجد مواد تنظيف فعالة. كل شيء أصبح غالي الثمن ورديء النوعية. كان أحمد لا يزال يدرّس في المدرسة نفسها، وكان راتبه لا يكفي طعام أسبوع، كان كثيرون من أصدقائه قد أصبحوا مقاتلين مع الكتائب المسيطرة على المنطقة. لكنه كان قد قطع وعداً لنفسه ولأمه بأن لا ينخرط مع أي طرف مسلح. كان عندما يفكر في الأمر، يشم رائحة نتنة لايعرف ما هو مصدرها. بدأ أحمد وأمه يبيعان ما في بيتهما من أغراض ذات قيمة، لم تعد رائحة المنزل الفواحة تصل إلى نهاية الشارع، لكنه ظل أنظف بيت في الحارة رغم كل شيء. كانت أم أحمد تقول: "الفقر ليس حجة للوساخة. ممكن تكون فقير بس نظيف ومرتب". لكن أحمد كان يدرك أن وسواس أمه القسري لا يدع لها مجالاً للتفكير المنطقي.
كانت احتمالات الاعتقال والإذلال والإعدام الميداني أهون على الجميع من لملمة أشلاء الاطفال الذين يدفعون خيارات الآخرين. لم يكن ثمة خيار آخر على كل حال، فقد باتت الهزيمة واضحة.
تحت القصف المستعر، كانت أم أحمد التي بدأ الكبر والحصار يفقدها عقلها، تنشر الغسيل الذي لم يعد ناصع البياض كما كان من قبل. حملها أحمد بسرعة ونزل فيها إلى أحد الملاجئ. كانوا مئتين وخمسين رجلاً وطفلاً وامرأة، يستخدمون حمامين اثنين. تذكر أحمد القنينة، والوعد الذي قطعه على نفسه. كان ينتظر حتى يهدأ القصف ويخرج إلى منزله ليقضي حاجته بهدوء، وهو يشعر بالانتصار على من يريد أن يسلبه هذا الحق، ثم يعود إلى الملجأ. في الملجأ كانت والدته قد شكلت فريقاً من النساء المسؤولات عن تنظيف المكان. لكنه مع ذلك تابع الخروج إلى المنزل في لحظات الهدوء حتى يستخدم مرحاضه الخاص. وبعد أسبوع خرج إلى منزله ولم يجده. فكان مضطراً لاستخدام المرحاض المشترك.
أتى خبر سيطرة النظام وانسحاب الكتائب المسلحة كالصاعقة على الملجأ. لكنه كان أفضل من الموت تحت الأنقاض بعد حملة القصف المرعبة بكافة أنواع الأسلحة على الأحياء بمن فيها. كانت احتمالات الاعتقال والإذلال والإعدام الميداني أهون على الجميع من لملمة أشلاء الاطفال الذين يدفعون خيارات الآخرين. لم يكن ثمة خيار آخر على كل حال، فقد باتت الهزيمة واضحة.
كان الاتفاق الذي تم بين النظام وفيلق الرحمن، يقضي بأن يخرج المقاتلون إلى الشمال السوري، وأن يسلم الأهالي أنفسهم ليتم فرزهم إلى مراكز الإيواء. ضمّت أم أحمد ابنها الوحيد وهي تتمتم بكلمات ذاهلة غير مفهومة. لم تكن رائحتها طيبة كما اعتاد أحمد. لكنه قبّل رأسها مودعاً وهو يعرف أنّ الشباب لن يعاملوا كم ستعامل النساء والأطفال، حتى من تثبت سلميتهم، أو عدم مشاركتهم بنشاط ثوري أو معارض.
عند المعبر، أمسك الجنود بعشرات الشباب وحشروهم في باصات مهترئة. باصات المسلحين شقت طريقها إلى الشمال. النساء والأطفال جمعن ونقلن إلى مكان آخر. أما باص أحمد وعدة باصات أخرى فظلت واقفة حتى يتم التأكد من هوية الجميع ووضعهم الأمني. بعد عدة ساعات بدأ الرجال يطالِبون بالنزول من الباص لقضاء الحاجة. لم يستجب العساكر، وضربوا الرجال بأخمص البندقية. أحد الرجال تبوّل على نفسه وبكى بصوت عال. ضحك الجنود. بدأ الشباب والرجال يتبولون في ثيابهم وهم يبكون واحداً تلو الآخر. لم يعد أحمد يطيق الرائحة، تمنى لو كان معه قنينة لكل رجل تريحه من مهانة اللحظة. بعد قليل، تبوّل على نفسه هو الآخر، ولم يعد يشم شيئاً، أو يشعر بأي خجل، لكنه اشتم رائحة نتنة وهو ينظر إلى حملة البنادق يطوفون حول الباص ويقهقهون.
المصدر