الإسلام والحداثة والتعايش في محاضرة



الحديث عن الإسلام والحداثة على أنهما نقيضان، وأن مسألة تعايشهما معًا باتت تواجه صعوبات كبيرة تبدو عائقًا أمام التوفيق بينهما، مصدره بعض ما أنتجته بعض التيارات السلفية الإسلامية، من منظومة فكرية تكفيرية تجاه كل من هو خارج منظومتها هذه، إضافة إلى ردة فعل بعض التيارات الحداثوية عليها، التي فهمت الإسلام استنادًا إلى ما أنتجته هذه التيارات السلفية التكفيرية، وبالتالي جاء موقفها الفكري والسياسي من الإسلام متشنجًا، وقد وصل الأمر بالبعض إلى الدعوة إلى اجتثاث الإسلام من النسق السياسي والاجتماعي عمومًا، حيث وضعت نفسها في مواجهة صدامية مع الدين الإسلامي، باعتباره قوة رجعية لا بدّ من اجتثاثها كاملةً.

هذه الأطروحات الصدامية طرحت إشكالات ضخمة، في ميادين الاجتماع والسياسة والثقافة والهوية، في الدول العربية كافة، وما زالت تعاني منها حتى الآن، وهي تحتاج إلى دراسات أكاديمية متخصصة وموضوعية، وليس ذلك مهمة مستحيلة، إذا ما حاولنا العمل عليه بخطوات ملموسة بعيدًا من التقوقع الأيديولوجي المسبق، وهذا ما لمسته في حضوري واستماعي لمحاضرة بعنوان: (إشكاليات العلاقة بين الدين والدولة والسياسة) للمفكر الإسلامي التونسي عبد الفتاح مورو، في مدينة إسطنبول بتاريخ 12 أيار/ مايو 2018، التي نظمها صالون الكواكبي المنبثق عن (مركز حرمون للدراسات المعاصرة).

تكمن أهمية المحاضرة في جانبين: الأول عنوانُها: “إشكاليات العلاقة بين الدين والدولة والسياسة”، وهي إحدى إشكاليات العصر في الدول العربية كافة، التي تُشكل عائقًا أمام إمكانية التعايش بين الإسلام والحداثة، أما الجانب الثاني في الأهمية فيحضر من شخصية المحاضر، كونه مفكرًا إسلاميًا، وشخصية سياسية حزبية تنتمي إلى تيار إسلامي سياسي (نائب رئيس حركة النهضة التونسية وأحد مؤسسيها في السبعينيات، وشخصية برلمانية، نائب رئيس مجلس النواب حاليًا في تونس).

أما أهم الأطروحات التي جاءت في محاضرته، التي أجد فيها تأسيسًا لإمكانية التعايش بين الإسلام والحداثة، والابتعاد عن الحالة الصدامية العدائية بين التيارات الإسلامية والأخرى الحداثوية، إذا ما مورست على أرض الواقع من قبل التيارات السياسية كافة، وخاصة الإسلامية:

1- الدعوة إلى إعمال العقل والتفكير العلمي، وأجد فيها مفتاح دخول الإسلام عالم الحداثة، وبالتالي إمكانية تجديد الخطاب الإسلامي بما يناسب مستجدات العصر الحالي كافة، فقد ألحّ المفكر الإسلامي مورو، على الإسلاميين وغير الإسلاميين، على إعمال عقولهم، وعدم تصديق كل ما قيل وما يقال، وإنما تصديق ما ينتجه العقل، خاصة أن معظم التيارات الإسلامية يتقبلون كل ما ينتجه الغرب من الصناعات التكنولوجية كافة، باستثناء العلوم الإنسانية: (الفلسفة، علم الاجتماع، علم النفس، السياسة… إلخ)، فهنا يعودون إلى السلف الصالح بدلًا من الاستفادة من نتاج هذه العلوم.

وأكّد ضرورة إعمال العقل في قضايا الفكر الإسلامي، ومن لا يعيد النظر في الفكر الإسلامي كأنه عطّل عقله وفكره، فعملية الاجترار من الماضي والأجداد لم تعد مقبولة، فلا يمكن إعادة الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وحتى إذا عادوا؛ فلن يحكموا كما حكموا سابقًا.

2- القضية الأكثر أهمية، هي قضية الدولة والحكم في الإسلام، فقد أكد مورو عدم وجود دولة دينية في الإسلام، وخاصة لدى المذهب السني. الذين عرفوا الدولة الدينية في التاريخ -على حد قوله- هم الفراعنة، فالفرعون هو الإله أو ابن الإله، كذلك الأمر في الحضارة اليونانية، والمذهب الشيعي، الذي يعتقد بولي الفقيه (ممثل الله في الأرض)، فقضية الحكم -بالنسبة إلى مورو- مسألة مدنية بحتة، تعود إلى خيارات أفراد هذا المجتمع أو ذاك، مع تأكيده أن مشكلة الحكم في التاريخ الإسلامي كانت دائمًا تُحلّ بالسيف، وذلك لغياب المؤسسات القانونية والدستورية التي من المفترض أن تكون مهمتها تغيير الحاكم. وهذه دعوة واضحة إلى بناء دولة القانون والمؤسسات، دولة يتساوى فيها المواطنون كافة، بغض النظر عن الدين والقومية… الخ. فالحاكم -كما يرى مورو– شخصية عادية غير مقدسة، يُنتخب من قِبل الناس، ويُراقب أثناء حكمه من قبل المؤسسات المختصة، ويُعاقب إذا ما أخطأ. فالإسلام لم يقدّم شكلًا محددًا للدولة في نصوصه. 3- القضية الثالثة، قضايا السياسة والحكم تقع في مجال اجتهاد الناس، أي في الإجماع على ما يجدونه مناسبًا ومفيدًا لهم، وليست دينًا أو مقدسات، وأن الاشتغال بقضايا الناس الحياتية في الدولة الوطنية، من خلال البرامج والخدمات التي تعد الناسَ بتأمينها في حال الفوز بالحكم، فالحكم عِلم وفن وليس دينًا مقدسًا. والعلاقة مع الآخر يحكمها الصندوق، ما يفرزه الصندوق (أي القانون) هو الحكَم بين الناس، وليس الجيش أو الأمن، وهذه دعوة واضحة إلى رفض الدولة الاستبدادية، سواء أكانت إسلامية أم مقنعة بالعلمانية، وإلى بناء الدولة الديمقراطية فقط. 4- القضية الرابعة، الاهتمام بقضايا العصر في العالم العربي، حقوق الإنسان، وحقوق المرأة ومن ضمنها حقها في تقلد منصب الرئاسة، حتى حقّ التدين من غير التدين، ورفض تكفير الآخر، فالشخص حرّ في عقيدته، وإرادته الفردية ترتبط فقط بالإرادة العامة (الدستور)، وغير ذلك قضايا شخصية بحتة. 5- القضية الخامسة، هي الانتخابات البرلمانية، وهنا تحدث عن تجربة خوض حركة النهضة التونسية الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تونس، حيث ذكر أن الحركة رشحت نساء غير محجبات في قوائمها، وشخصية يهودية تونسية، أي أن الترشيح تم بناء على معايير مفهوم دولة المواطنة، وليس بناء على المعايير الدينية.

إن قراءة موضوعية لهذه القضايا الرئيسة، التي تضمنتها محاضرة مورو، تشير بوضوح إلى أن أساس الخطاب التجديدي في الإسلام كان واضحًا ومتضمنًا لتطلعات الأجيال الجديدة، وإلى إمكانية عودة الإسلام إلى الواقع المعاش، بعيدًا من تكفير الآخر. فهل تلاقي التيارات الأخرى وخاصة العلمانية هذا الخطاب الديني التجديدي بخطاب ديمقراطي تجديدي آخر يعتبر الدين حاجة روحية وثقافية للإنسان لا يمكن انتزاعه بالمطلق، ويلاقي الخطاب الديني التجديدي في قواسم مشتركة، جوهرها العمل لبناء دولة القانون والمؤسسات الجامعة للمواطنين كافة. ويكون العدو الوحيد للخطابين الديني والعلماني التجديدين، هو الاستبداد، أيًّا كان مصدره. إنها الخطوة الأولى في مسيرة العمل السياسي الديمقراطي المستقبلي.


طلال المصطفى


المصدر
جيرون