كيف تحكم إيران الدولة العراقية منذ الغزو الأمريكي؟

11 مايو، 2016

يمكن أن ترى مشهدًا ترفع فيه الإعلام الإيرانية في قلب العاصمة العراقية بغداد بدلًا من العلم العراقي، هذا المشهد ليس غريبًا على الساحة العراقية، إنك لست في قلب طهران، بل إنك على مشارف البصرة وبغداد.

منذ أيام بعد اقتحام متظاهرين لمجلس النواب والهتاف ضد إيران وبالتحديد شخصية “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس الإيراني وأحد أبرز قادة الحرس الثوري الإيراني المعروفين بتدخلاتهم في العراق، رد الموالون لإيران في العراق وجلهم من مليشيات الحشد الشعبي بتنظيم مسيرات بالإعلام الإيرانية، بل وامتد الاشتباك على مواقع التواصل الاجتماعي بإطلاق وسوم مؤيدة لقاسم سليماني، في المقابل ردت حملات عراقية بحملة “علمي هويتي”.

يمكنك أن تتخيل حجم النفوذ الإيراني بعد مشاهدة هذا المشهد، فبعد حرب الثماني سنوات (1980-1988) بين البلدين لم يكن ليتوقع أحد أن يكون لطهران كل هذه السطوة على بغداد، ولكن يمكن اعتبار أن كلمة السر تكمن في “الغزو الأمريكي للعراق”.

ما قبل الغزو

الأطماع الإيرانية في العراق ليست وليدة العصر الحديث ولكن لها جذور تاريخية واضحة أشار لها الدكتور عبد الستار الراوي – وهو أستاذ للفلسفة في جامعة بغداد وسفير العراق لدى إيران قبيل الغزو الأمريكي – وذلك في تقديمه لكتاب “النفوذ الاستراتيجي الإيراني في العراق”.

يرى الراوي أن الطموحات الإيرانية في بغداد تعود إلى العصر البابلي، وهو ما يظهر في الحروب التي نشبت بين بلاد فارس والبابليين الفرس للمرة الأولى، واحتلت على إثرها مدينة بابل عام 539 قبل الميلاد في عهد الإمبراطور الفارسي كورش.

حتى إن الأمر استمر بعد دخول الإسلام إلى الحضارتين، حيث ظلت هذه الدولة الفارسية القديمة تعتقد أن بلاد الرافدين امتداد استراتيجي طبيعي لها، وهو ما دفع الصفويون إلى اتخاذ مذاهب التشيع، وكذلك تكريسه في العراق بحكم الجغرافيا التي تفصل بين الجانبين بقرابة 1300 كيلومتر فقط، حتى إن الجنوب العراقي تشبع بالثقافة الإيرانية ومنطلقاتها.

وقد ظل هذا الصراع التاريخي محمومًا لفترة طويلة بين الطرفين وتخللته حروب ومعاهدات وانقطاع وتواصل في العصر الحديث، ولكنه بلغ ذروته مع وصول الثورة الإسلامية الإيرانية إلى الحكم في طهران في العام 1979، إذ اندلعت عقبها بعام واحد حرب الخليج الأولى بين البلدين مباشرة.

الغزو الأمريكي للعراق والانقضاض الإيراني على بغداد

في العام 2003 باركت إيران الغزو الأمريكي للعراق الذي أسقط الرئيس العراقي صدام حسين رغم تصاعد العداء بين “الشيطان الأكبر” كما يحب القادة الإيرانيون أن يطلقوا على أمريكا وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد أعلنت طهران تأييدها الكامل لأول حكومة تشكلت بعد الاجتياح الأمريكي للعراق.

يؤيد ذلك ما كشفه السفير الأمريكي الأسبق لدى كل من العراق وأفغانستان والأمم المتحدة، زلماي خليل زاد، في مذكرات له قيد الطبع أن الولايات المتحدة نسقت مع إيران قبل غزوها للعراق وسقوط بغداد في التاسع من أبريل عام 2003.

وهو الذي أكد أيضًا أن وزير خارجية إيران الحالي محمد جواد ظريف لعب دورًا محوريًا في محادثات أمريكية إيرانية سرية جرت في جنيف عندما كان ظريف حينها مبعوثًا لإيران لدى الأمم المتحدة.

كانت هذه فرصة كبرى سانحة للتخلص من أحد ألد أعداء طهران صدام حسين، وقد فتحت المجال بعد ذلك بشكل كبير لذراعة النفوذ الإيراني في حواضر العراق بسهولة شديدة، بعد التفكك الذي أصاب البلاد بعد الاحتلال بعد تشكيل بول بريمر (الذي كان مسؤولًا عن الإدارة المدنية في العراق بعد الاحتلال) مجلس الحكم الانتقالي في العراق الذي دعمت إيران أشخاصه بلا حدود وأيدت خطواتهم.

انطلقت إيران بعد ذلك شيئًا فشيء لتمكن رجالها وتدعمهم في جميع مفاصل الدولة بإظهار المكون الشيعي على باقي مكونات الشعب العراقي سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ففتحت الحدود مع إيران بعد حل وتسريح الجيش العراقي، وتوالت المليشيات في التكوين على إثر ذلك في الجنوب العراقي.

فيما بدأت تشكل الأذرع الأمنية والعسكرية المدربة إيرانيًا من قبل فليق القدس، وظهرت في هذه الأونة فرق الموت التي استهدفت تصفية الحسابات مع المكونات السياسية والمجتمعية الأخرى في العراق.

هذا وقد شرعت إيران في دعم حزب الدعوة الإسلامية الشيعي وجعلت ثقل مركز الحكم فيه، وكذلك المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي اعتبره البعض أحد أذرع إيران السياسية في العراق، وقد تحددت الشخصيات التي تشغل المناصب السياسية الحساسة في العراق من هذه الأذرع.

الهيمنة السياسية

سعت إيران على توثيق روابطها مع الحكومات العراقية المتوالية منذ الغزو، وتمكنت من ذلك تمامًا عن طريق أذرعها السياسية التي تلاعبت بالعملية السياسية برمتها ونجحت في الهيمنة على مراكز صنع القرار في بغداد مبكرًا.

وقد لعبت إيران على تناقضات البيت الشيعي الداخلي الذي صنعته بيدها عقب الغزو، وحرصت كل الحرص على جعله في صورة أضعف ما تكون، في حين تعمل طهران كمرجع لهذا البيت في حال اختلافه، لتُبقي إيران خطوط اللعبة في جعبتها، دون تغليب أحد على الآخر، إذ أصبح الساسة العراقيون منذ ذلك اليوم يحجون إلى طهران لحل أزماتهم الداخلية.

وكأحد مظاهر الهيمنة السياسية الإيرانية على العراق يمكن النظر إلى مواقف العراق الخارجية ومطابقتها بالمواقف الإيرانية، والتي تبدو أنها خرجت من جهة واحدة وهي إيران بالتأكيد، وقد ظهر ذلك في الموقف من الثورة السورية، وحرب اليمن، وغيرها الكثير.

وسعت إيران خلال وقت قصير من رهاناتها في العراق ولم تعتمد على فصيل شيعي بعينه، وشجعت الحركات الشيعية الناشئة والتيارات السياسية المختلفة إلى اقتحام المجال العام في العراق والهيمنة عليه، وذلك لضمان توسيع الخيارات وعدم الانحسار، خاصة وأن النفوذ الأمريكي كان في أوجه بعد الغزو مباشرة.

لاعبت إيران الولايات المتحدة على كافة الطاولات حتى استطعت أن تستأثر بكعكة العراق منها، بداية من الجلوس على الطاولة السياسية وعملية الانتقال في العراق التي تصدرتها التيارات الشيعية الموالية لإيران (حزب الدعوة الإسلامية – المجلس الأعلى الإسلامي في العراق) والتي تحالفت مع إدارة الولايات المتحدة.

وكذلك مرورًا بالطاولة العسكرية وتشكيل مليشيات مقاومة ضد الاحتلال الأمريكي، أبرزها جيش المهدي التابع للتيار الصدري الذي يتزعمه مقتدى الصدر الابن الوحيد على قيد الحياة لآية الله محمد صادق الصدر الذي اغتيل على يد النظام في العام 1999.

ومن هنا بدت أن السياسة العراقية تُصاغ عن طريق وكلاء الأجهزة الأمنية الإيرانية في بغداد، الذين عملوا على صياغة التحالفات داخل البيت الشيعي بمختلف مكوناته، كما عملوا على إذكاء صراعات وإخماد أخرى، والتحكم في نتائج الانتخابات، ودعم المرشحين، وتشكيل الائتلافات، وقد ظهر ذلك في الانتخابات البرلمانية 2005 و2010، في حين تراجع هذا الدور إلى حد ما في 2014 بعد إجبار نوري المالكي على التنحي لصالح حيدر العبادي رئيس الوزراء الحالي بضغط أمريكي، إلا أن إيران نجحت أن تتكيف مع هذا الوضع واستعادت زمام المبادرة مرة أخرى عبر حلفائها الذين يعملون على عرقلة وإعاقة حيدر العبادي.

الهيمنة الاقتصادية

تعد إيران المسيطر الأول على الاقتصاد في العراق، وأحد أكبر الشركاء التجاريين للحكومة العراقية، حيث بلغت إجمالي تقديرات حجم التجارة بين البلدين 12 مليار دولار في العامين 2013 و2014.

وبالتحديد في الجنوب العراقي يُلاحظ أن معظم البضائع الموجودة هناك ذات منشأ إيراني، حيث اعتمدت طهران على العراق كسوق رئيسي لمنتجاتها المختلفة في مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية وقطاعات الاستثمار والسياحة الدينية والقطاعات التجارية.

حتى إن اللغة الفارسية فرضت نفسها على التعاملات التجارية في محافظات العراق الجنوبية، حيث اضطرت نسبة كبيرة من المجتمع العراقي في تلك المحافظات للتحدث بها في التعاملات التجارية والاقتصادية بالنسبة لحركة البيع والشراء.

كما اتسع نطاق السياحة الدينية بشكل غير مسبوق بين العراق وإيران حتى وصل في بعض التقديرات إلى 3000 زائر رسمي يوميًا ناهيك عن الأعداد التي تدخل بطرق غير رسمية.

هذا وقد بلغت الصادرات الإيرانية غير النفطية إلى العراق مبلغ 1.8 مليار دولار في عام 2007، ووصلت إلى 2.3 مليار دولار في العام 2008 وتضاعفت في أعوام  2012 – 2013 إلى 6.2 مليار دولار، وتزايدت في كل عام حتى وقتنا هذا، حتى إن مدينة البصرة وحدها تستورد من إيران في قطاعات غذائية وإنشائية مختلفة بمبلغ يقارب 50 مليون دولار.

وقد دخلت الحكومات العراقية المتعاقبة في شراكات استراتيجية اقتصادية ولوجستية مع إيران، من خلال مشاريع البنى التحتية ومشاريع الطاقة، واحتكارات تجارية لسلع استراتيجية، حيث بلغت تقديرات استحواذ إيران على منتجات الألبان والأغذية والسيراميك والأسمنت بالعراق إلى نسبة تقارب 80%.

جدير بالذكر أن اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” للمدن السنية منذ عام ساعد على تنامي النفوذ الإيراني الاقتصادي بعد انهيار الثقل التجاري لهذه المدن، وفي ظل حاجة العراق لمن يسد العجز الذي خلفته المدن التي وقعت تحت سيطرة داعش، زادت الهيمنة الاقتصادية الإيرانية على الحياة اليومية للمجتمع العراقي.

فيما يتوقع خبراء تصاعد وتيرة هذه السيطرة على الاقتصاد العراقي من قبل إيران بعد إتمام الصفقة النووية الموقعة مؤخرًا مع الغرب، والتي ستتيح لإيران خوض مجالات تجارية جديدة ستكون العراق سوقها الأول.

الهيمنة العسكرية

تُشير تقارير غربية إلى دور فيلق القدس الإيراني التابع للحرس الثوري في إدارة المشهد الميلشياوي في العراق، إذ إن غالبية المليشيات الشيعية تدربت وتسلحت على يد هذا الفيلق.

دعمت طهرات في البداية “فيلق بدر” التابع للمجلس الأعلى الإسلامي في العراق، ثم وسعت من دعمها ليشمل جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، ولتظهر كتائب فرعية جديدة كعصائب أهل الحق وحزب الله العراقي.

وعقب الانسحاب الأمريكي من العراق في العام 2011 اختفت بعض هذه المليشيات لكنها ظهرت فجأة إلى الصورة بعد سيطرة تنظيم داعش على مدينة الموصل، حتى ظهرت مرة أخرى متحدة تحت لواء “الحشد الشعبي” الذي تقدر أعداده بـ 100 ألف متطوع مدعومين إيرانيًا، لديهم القوة والإمكانيات التي مكنتهم من الصمود أمام داعش أكثر من الجيش العراقي المسلح أمريكيًا.

وقد ثبتت علاقة بعض الحركات السلفية الجهادية في العراق عقب الغزو بإيران، حيث أمدت إيران الكثيرين منهم بالسلاح والمال، فيما ظهرت قضية علاج عناصر تنظيم القاعدة في إيران، والتعاون الخفي بين الطرفين.

وعلى صعيد أجهزة الأمن والاستخبارات تحدث البعض عن وجود سبع وكالات في وزارة الداخلية تتبع أحزابًا تدين بالولاء لإيران، كما تدين قطاعات من الجيش العراقي لرجال إيران في الحكومة العراقية، وهو ما يوفر لإيران سيطرة على المشهد الميداني في العراق بالكامل.

وعلى جانب آخر تتمتع إيران بعلاقات قوية بكردستان العراق وقواتها البيشمركة، وقد سعت من خلال ذلك إلى تعزيز وجودها وأنشطتها الاستخباراتية في كردستان إذ يوجد في السليمانية مقر عمل قسم تابع لقوات الحرس الثوري الإيراني مسؤول عن شمال العراق.

الهيمنة العقائدية

يسيطر على الشارع الشيعي في العراق مرجعيات عدة وتيارات تربت في حوزات إيران أهمها علي السيستاني، وتيار مقتدى الصدر، والمجلس الإسلامي الأعلى بزعامة عمار الحكيم، وحزب الدعوة بفروعه المختلفة، وثمة مرجعيات نجفية أخرى تربت في النجف لكنها أقل في النفوذ من المشتغلين في السياسية القادمين من قم.

وبشكل عام تعمل إيران على ضمان النفوذ الأكبر لرجال الدين الذين تربوا في حوازات قم الذين يضمنون ولاءهم الكامل أكثر من رجال الدين الذين تربوا في حوزات النجف غير الفاعلة سياسيًا.

في حين ترفع إيران لواء الدفاع عن الشيعة حول العالم مما يعطي لها سلطة أبوية على التجمعات الشيعية في العالم حتى التي لا تعترف منها بولاية الفقيه الأيديولوجيا الشيعية التي تقوم عليها الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي اختلفت مع نسقها تيارات شيعية أخرى أهمها تلك التي في النجف.

ومع هذا أصبح العراق المقصد الرئيسي للسياح الإيرانيين الذين تقدر أعدادهم سنويًا بـ 1.2 مليون سائح ديني إيراني، يأتون إلى العتبات المقدسة بالعراق في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، وعلى الجانب الآخر تقدر أعداد زائري إيران من العراقيين بـ 1.7 مليون سائح  عراقي.

أهداف استراتيجية

يمكن تلخيص الأهداف الاستراتيجية لإيران في العراق من هذه المحاور في أن أبرزها الاستحواذ على الفاعلين السياسيين في العراق لضمان ولاء حكومة بغداد لاستخدامها في المقايضات الإقليمية.

كما تستهدف إيران السيطرة على العراق بالصورة التي لا تسمح بقيام عراق مهدد لإيران مجددًا كما كان في السابق، وكذلك تذليل العراق كسوق خلفية لإيران وانطلاقها الاقتصادي المنتظر بعد الاتفاق النووي.

كما تسعى إيران إلى السيطرة على المشهد العسكري بالكامل عن طريق المليشيات المختلفة المتدربة والممولة من فيلق القدس، لتمنع قيام أي قوة عسكرية أخرى خارج نطاق نفوذ إيران، في الوقت الذي تصر فيه إيران على التمسك بمنصب شرطي العراق لدى الغرب.

ثمة هدف السيطرة الدينية على شيعة العالم بمحاولة تحجيم دور مرجعيات النجف كي تبقى مرجعية قم هي المرجعية الأولى والمسيطرة على المشعد الشيعي العالمي.

في النهاية يقول مايكل إيزنشتات مدير مركز الدراسات الأمنية والعسكرية بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى: “أن تقييم النفوذ الإيراني الحالي في العراق يؤكد أن طهران هي الفائز في الحرب على العراق سواء من خلال نفوذها السياسي القوي داخل الحكومة العراقية التي تضم عددًا من أقرب حلفاء طهران إضافة إلى نفوذها الديني والإعلامي، واستغلالها للفوضى التي أعقبت الربيع العربي في تعزيز وجودها ونشر نفوذها في المنطقة”.