تداعيات بعد سقوط حلب

20 ديسمبر، 2016

غسان زكريا

يصعب على المرء أن يكتب بتعقُّل وهدوء بعد سقوط حلب، والمشاهد المروِّعة التي رافقته؛ فلا ريب أن ما نراه فاجعة إنسانية لا يمكن التخفيف من هولها، وتبعث على الغضب والحزن العميقين. وفي حين لا يمكن الادعاء بأن التعليق على حدث جلل كهذا يمكن أن يكون “موضوعيًا” بالكامل، تثير الكارثة لدينا بعض التداعيات والملاحظات التي قد لا يرتبط بعضها -ارتباطًا مباشرًا- بالحدث نفسه، بل بسياق الثورة الأشمل، والتطورات المحلية والدولية المتعلقة بها.

سقوط حلب هزيمة عسكرية للفصائل المُسلحة. هذه حقيقة بديهية يجب الإقرار بها، إلا أنها ليست الهزيمة العسكرية الأولى، بل وليست الأكبر، من الناحية المعنوية على الأقل (فتلك كانت سقوط درايا)، ولَئن أنتجت هذه الهزيمة كثيرًا من الدمار، وأزهقت أرواحًا عديدة، فإنها لا تُغيّر كثيرًا على المستوى العسكري؛ فقد بات واضحًا ارتباط الكرّ والفرّ على الأرض بالمدّ والجزر في مستوى تسليح أطراف دولية للفصائل المُقاتِلة، وأن موجة تسليح جديدة، يمكن أن تعيد للفصائل مناطق خسرتها سابقًا. من جهة أخرى، يجب التنبه إلى أن السيطرة على مناطق جغرافية -كبرت أم صغرت- ليست الهدف من حرب العصابات. نقل الشهيد غسان كنفاني عن كتاب حرب العصابات لماوتسي تونغ -الذي كتبه هذا الأخير، بوصفه دليل عمل للحرب التي خاضها الصينيون؛ لتحرير بلادهم من الاحتلال الياباني، قوله: إن “كسب الأرض ليس سببًا للفرح، وخسارة الأرض ليست سببًا للأسف…؛ فحتى إذا احتللنا المدن، سنكون غير قادرين على الاحتفاظ بها، وبالعكس، حين تكون قواتنا الخاصة غير كافية، فإننا عندما نتنازل عن المدن فسيكون لدينا الأمل باسترجاعها…، ومن غير الملائم أن ندافع عن المدن إلى الحد الأقصى؛ لأن هذا يقود إلى التضحية بقوتنا الفعّالة فحسب”. على الرغم من الاختلافات بين صراع السوريين ضد الاحتلال الأسدي وصراع الصينيين ضد الاحتلال الياباني، تبقى هذه القاعدة، مع تعديلها قليلًا، بحسب الخصوصية السورية، مهمةً وصحيحة على المستوى العسكري. في هذا الإطار، يبدو تركيز الفصائل على بسط السيطرة على المدن، ودخولها دوامات إدارية وقانونية، لا تمتلك الخبرات والموارد اللازمة للتصدي لها، عاملًا مساهمًا في استعصاء الوضع العسكري الميداني.

يجب التنبُّه -أيضًا- إلى أن الهزيمة العسكرية للفصائل ليست هزيمة للثورة نفسها. لا يهدف هذا القول إلى فصل قتال الفصائل عن ثورة السوريين على الطغيان، أو نقاش جدوى عسكرتها (فهذا نقاش لم يعد مُجديًا هدر الطاقة فيه؛ نتيجة الأوضاع الموضوعية)، بل إلى التذكير بأن الثورة -في أساسها- ليست مشروعًا عسكريًا، بل هي مشروع أخلاقي وسياسي واقتصادي واجتماعي، أنتج صراعًا مُسلحًا. بهذا المعنى، أحرزت الثورة إنجازات لا يصح الاستهانة بها، مهما يكن حجم المُصاب، وهي إنجازات لن تُفقَد بسهولة، لعل أبرزها إحياء الجدل السياسي والاجتماعي، وليس أقلها إسقاط شرعية النظام إلى الأبد.

يُدرك النظام جيدًا أن الثورة أسقطت شرعيته منذ الأشهر الأولى، وهو -لذلك- يتبنى خطابًا متناقضًا، يخلط حماية الأقليات بالسيادة الوطنية و”الممانعة” والحرب على الإرهاب، ولا يستحق هذا الخطاب النقد والتفنيد؛ فتفككه واضح إلى حد يبعث على الاقتناع بأن النظام نفسه لا يعبأ باتّساق خطابه وتماسكه. ما يعنينا -هنا- التوصل إلى أن النظام قد استنتج أنه لا يستطيع مواصلة الحكم إلا إذا استمر القتال، ويلتقي النظام في ذلك مع المصالح الغربية والإسرائيلية؛ إذ لا يمكن رؤية هدفٍ للسلوك الغربي تجاه الثورة سوى أنه يريد استمرار القتال إلى أجل غير مسمى. نتيجة لذلك، يتطابق الجهد المبذول؛ للتوصل إلى “حل سياسي” مع الجهد المبذول لدعم “عملية السلام” لحل القضية الفلسطينية: دائرة مُفرغة من التصريحات تترافق مع دعم للعنف، وإذكاء للأحقاد، وتضحية بالمدنيين.

بعبارة أخرى، بات لزامًا إدراك أن ما يُعرف بالمجتمع الدولي لن يُقدم شيئًا ذا معنى للسوريين، وأنه لا يرى في حياة السوريين وحريتهم وكرامتهم أي قيمة. في الواقع، لا تخشى القيادات الغربية -وعلى رأسها الأميركية- إلا من رأيها العام، الذي يبدو أنها نجحت في تحييده؛ اعتمادًا على مُركّب من تعزيز العنصرية -وهي ظاهرة أصيلة في المجتمعات الغربية، يجب عدم التخفيف من أثرها- والضخ الإعلامي لتحويل “داعش” إلى المسألة المركزية في القضية السورية. لا بد للقوى الثورية -إذن- وعلى رأسها جهات التمثيل السياسي، من توجيه جهدها نحو اتجاهات أخرى مثمرة، وهي عديدة؛ فمنها توسيع دائرة النقاش الشعبي؛ لصياغة خطاب متماسك وواضح للثورة، وعدم ترك هذه المهمة لمجموعة أفراد نصّبوا أنفسهم نُخبًا ثقافية أو سياسية؛ وإيجاد السبل للتعامل مع الأعباء الإدارية والخدمية في المناطق المحررة والمحاصرة؛ وإعادة البعد السياسي للقضية السورية إلى الواجهة، بما يضمن عدم الاكتفاء ببعدها الإنساني، على أهميته، فالمبالغة في التركيز على هذا البعد الإنساني أداةٌ فاعلة لدى الإعلام الغربي في إبعاد الرأي العالمي عن التنظيم السياسي، وتشكيل مجموعات ضغط تستطيع إحراز إنجازات حقيقية، وتحويله إلى التعبير عن نفسه بموجات من التعاطف، تتمثل في فتح البيوت للاجئين، والتبرع بالأموال للإغاثة (ومن نافل القول أن هذا مهم، والمحافظة عليه واجبة، ولكنه غير كافٍ).

في اعتقادنا، لن ينهار النظام إلا من داخله، فلا يكفي أن تتخلى عنه روسيا وإيران (وهما لن تتخليا عنه، ولكن حتى إذا حدث ذلك، فليس لدينا شك أن الغرب حينها سيزيد من إضعاف الفصائل المسلحة؛ بحيث تبقى عاجزة عن إسقاط النظام)، بل لا بد من تماسك المجتمع السوري في وجه النظام، والاحتلال الروسي الداعم له. لعل حدوث ذلك يبدو اليوم مستحيلًا؛ ولكن، ما دامت القوة العسكرية للفصائل غير كافية، وما دام الاستسلام سيؤدي إلى مزيد من القتل والتشريد والتدمير (بما يدل عليه سلوك النظام الانتقامي على طريقة المافيا)، فليس أمام القيادات السياسية والعسكرية في الثورة خيارًا إلا العودة إلى دعم المجتمع المدني السوري -وهو قائم وحيٌّ وفاعل- وسلوك نهج حركات التحرر الوطنية، لا الأحزاب السياسية، أي الموازنة بين الكفاح المسلح في حرب العصابات، والتركيز على عدالة القضية وتخليصها من التعقيدات المفتعلة التي تفرضها الأدبيات السياسية الغربية عليها، والتمسك بقيم الحرية والكرامة.

قد يبدو -هنا- أننا ندعو إلى ما يسميه بعضهم “الموضوعية” في التعامل مع الثورة، أو إلى خطاب يدّعي الحياد، ويكرر عبارات جوفاء عن المحبة والإخاء والتعايش، ومعناها الحقيقي الاستسلام والانهزام، والقبول بتسلط مُسُوخ تستقي دروسها من عُتاة الإجرام في التاريخ.

تحت مُسمى الموضوعية، قال بعضهم: إن سقوط حلب ليس مأساةً؛ لأن من كان يسيطر عليها قوى إسلامية ظلامية وإرهابية. يا لها من موضوعية بائسة تلك التي تجعلنا نحاكم الجرائم بحسب هوية ومُعتَقد مُرتكبيها، لا بحسب حجمها ونتائجها! يمكن -بصعوبة- تفهُّم أن يدفع الشعور بالعجز، والرغبة في عدم رؤية الأخطاء الذاتية، إلى قول كهذا؛ ولكن، لا يمكن القبول به. فحتى إذا وافقنا على أن القوى التي كانت تسيطر على شرق حلب “إرهابية” (ونحن لا نوافق على ذلك بالتأكيد)، تثبت تجربة أفغانستان أن مواجهة الإرهاب بالقصف العشوائي وحرق المنازل والإعدامات الميدانية والتعذيب في السجون وغيرها من وسائل الإجرام والإرهاب الحقيقي، لا تؤدي إلا إلى زيادة انتشار الإرهاب.

ولا يسعنا اختتام هذه التداعيات المتفرقة إلا بالترحم على شهداء سورية، والتأكيد على أن الثورة مستمرة على الرغم من الآلام والمصائب.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]