ذكرى محمود سعيد.. دراما الظل والنور

10 أبريل، 2017

الأصل في العمل الفني أن يكون وحدة واحدة، لكنها متعددة الدلالات، هذا التعدد يفسح المجال لتنوع وجهات النظر إلى الفن وتباين تفسيراته، من هنا يمكننا اعتبار الأثر الفني منفذًا للوصول إلى شخصية صاحبه، ونزعاته وميوله، بالإضافة إلى أنه مرآة للعصر الذي عاش فيه الفنان وصدى للمجتمع من حوله. لذلك بالنظر إلى باكورة أعمال محمود سعيد التي ظهرت في أوائل العشرينيات، الوقت التي كانت تتصاعد فيه صيحات الجماهير المحتشدة المطالبة بالاستقلال، كان محمود سعيد يعمل عاكفًا على استقلال شخصيته الفنية وتفرد أسلوبه؛ كأنما المطالبة بالحرية الجماعية، وتأكيد فردانية الفنان مطلبان لا يفترقان.

من القانون الى الفن

ولد محمود سعيد في مدينة الإسكندرية التي كانت مدينة متعددة الجنسيات في ذاك الوقت، في 8 إبريل/نيسان عام 1897 لأبيه محمد سعيد باشا رئيس وزراء مصر.
ألحقه والده بإحدى المدارس الأجنبية حينذاك، وجلب له مدرسين يعلمونه مناهج المدارس المصرية. وعلى الرغم من حياته الأرستقراطية ترسخت في ذهنه الكثير من العادات والتقاليد الشعبية السائدة في ذلك المكان والزمان، واختزنها في ذاكرته وعبّر عنها بعد ذلك برؤيته الخاصة.
بدأ الفنان محمود سعيد حياته في دراسه القانون، وتدرج في سلك القضاء وفي الوقت نفسه تردد على باريس وواصل دراساته في بعض أكاديمياتها. شاهد المتاحف في بعض بلدان أوروبا، وتعرف إلى الأعمال الفنية عبر العصور، وتأثر بالانطباعيين والتعبيريين، قبل أن يستقر على أسلوبه الخاص، والذي اشتهر به في نهاية العشرينيات.
ابتعد محمود سعيد عن المثالية الإغريقية في الفن ونبذ الجمال المثالي، اختار أن يرسخ لشكل جديد من الفن الحداثي النابع من التراث والثقافة المصرية، بالرغم من استلهامه بعض القواعد الأساسية من تراث التصوير الأوروبي؛ مثل التصوير ثلاثي الأبعاد بما يتضمنه من ظلال وإضاءات، تبرز وتجسد الأشكال والطبيعة الحية والتعبير الحسى الواضح للموديل التي يختارها مثل إبداعه فى لوحات (بنات بحري، بنت البلد، ذات الجدائل الذهبية) وغيرها. لكنه لم يستعمل الظلال والإضاءات بشكل متناغم مستتر كما فعل فنانو أوروبا، فجعل للألوان صراعًا دراميًا يتجاور فيه الظل والنور بشكل مسرحي حاد، كصراع الموت والحياة أو الصراع بين طرفين متضادين للوصول إلى نوع من الاتزان في اللوحة.

تحوير المرئيات

لم يترك محمود سعيد أمر إضاءة لوحاته للشمس، أو لأي مصدر إضاءة خارجي آخر لتحليل الألوان وتحليل العلاقة بين الظل والنور. كان له منظوره المتفرد للرؤية؛ لذلك أجرى تحويرات على أشكال المرئيات، من البشر والحيوانات والنباتات، ليعمل على إعادة خلقها من جديد وفق رؤيته الشخصية، والتي تهتم لأمر الجوهر الداخلي وليس المظهر العابر فقط. يتجلى هذا النسق الخاص به في رسمه الفتيات المصريات. فحين يرسم فتاة مصرية لا يقصد صبية بعينها، وإنما يصور مظاهر الأنوثة والهوية المصرية محاطة بقدر من الخصوبة والحيوية، يجعلها تختلف عن مظاهر الأنوثة في أي مجتمع آخر.

الهوية المصرية كانت سؤال محمود سعيد وهاجسه الملح، كان يبحث عنها في لوحاته، يحاول استخلاصها من مظاهر الحياة حوله كعطر مركز يحاول نثره من جديد على اللوحات، بشكل يعبر عن هذه الهوية بعمق يتجاوز الواقع السطحي البسيط، لنظرتنا العابرة، ويبدو أقرب إلى عوالم الأساطير القديمة، والحكايات الشعبية.

تناقضات متحدة

بالنظر للمرة الأولى إلى لوحات الفنان المصري محمود سعيد، يعتقد المشاهد أنه يحاكي الطبيعة. غير أن النظرة المتمعنة تكشف للمشاهد خفايا عالم محمود سعيد الخاص من النساء والرجال، حتى الحيوانات والمناظر الطبيعية. عالم من الشخصيات الأسطورية، أصحاب القوام الفارع، والبشرة اللامعة والنظرات التي ترتحل إلى عالم غير مرئي، يجمع كل التناقضات المجتمعية والفنية، التي عاشها محمود سعيد، ليعيد صهرها وتشكيلها من جديد بشكل يخص صاحبه فقط، ليمثل هذا التناقض نوعاً من أنواع وفرة الدلالات الفنية.

يظهر هذا التناقض بوضوح بين بورتريهات سعيد ورسوماته العارية، حين رسم أفراد النخبة الأرستوقراطية بملابس فاخرة ووضعيات غربية مرهفة، وفي محترفه بحي الرملة، رسم أجساداً عارية مثيرة على أغطية الأسرّة، أو أمام مناظر طبيعية متخيّلة، تتسم أولئك النساء العاريات المثيرات ببشرات داكنة أقرب إلى صورة الفلاحة المصرية التي شكلت رمزاً تكرر استخدامه مرارًا في الثقافة البصرية المصرية المعاصرة. وبالتالي يشدد سعيد على هويته الوطنية ويقمعها بشكل تعاقبي، معبرًا بذلك عن التفاعل الكوزموبوليتاني متعدد الهويات الذي كان قائمًا في المجتمع السكندري، وبدا جليًا في استخدامه الحسّي للألوان وضربات الفرشاة والأجساد الأنثوية، التي تمثل ثقافة بصرية مشتركة في بلدان البحر الأبيض المتوسط، تشمل حدود مصر الجغرافية وتتعداها.

عقد ذهبي

تظل السنوات العشر الواقعة بين عامي 1927 و1937 هي سنوات ذروة عطاء محمود سعيد الفني. ومن أجمل ما أسفرت عنه تلك السنوات العشر، لوحات: “حمام الخيل”، “المرأة والقلل”، “بنات بحري”، و”ذات الجدائل الذهبية”، تلك الأيقونة التي تمثل مرجعًا في الفن المصري الحديث. صور فيها وجه فتاة مصرية شعبية، عيناها الواسعتان تنظران إلى لا شيء. وجديلتان كأنهما منحوتتان بدقة حول وجه قوي وشفتين غليظتين ترسمان شبح ابتسامة. تكوين فرعوني راسخ التصميم، بعيد عن أي تلميحات فجة، بالرغم من الجزء المكشوف من صدر الفتاة.

يبقى محمود سعيد نسيجًا خاصًا بين رواد الفن المصري الحديث، لوحاته توثيق أصيل لحياة مصرية سكندرية، في حقبة زمنية معينة، بريشة فيلسوف يلتقط تفاصيل الحياة اليومية الملقاة هنا وهناك، ليزيح بلوحاته الستار عن التفاصيل الجمالية لأعماق الحياة المصرية. نشاهد من خلال لوحاته، حياتنا الإنسانية التي يخفيها زخم المشاغل اليومية. وتعيد إلينا تفاصيل أخرى أكثر رهافة، كنا قد نسينا جوهرها الثابت، حين تغيرت القشرة الخارجية بفعل التطور الثقافي، لكن الجوهر بقي بهوية مصرية خالصة لا تتغير باختلاف الثقافات.

[sociallocker] صدى الشام
[/sociallocker]