الاعتراف بالهزيمة كشرط لتجاوزها

26 يونيو، 2017

نادر جبلي

البلد مدمر متهالك يوشك على التفكك، والشعب مشرد يهيم على وجهه، والعلاقات بين فئات السوريين في أسوأ حالاتها. وأصحاب الرايات السود يسيطرون ويتحكمون بالمناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، ويجعلون الجميع يترحم على أيامه، ويجعلون العالم يؤجل فكرة رحيله ويتحدث عن إعادة تأهيله، والجيش الحر والقوى الديمقراطية في أضعف حالاتهم، والقوى الخارجية تحتل وتتحكم بأرض البلاد وسمائها وقرارها ومصيرها، والمعارضة السياسية والعسكرية مرتهنة مفككة متقاتلة ينهش بعضها بعضًا، ومن تسبب في كلّ هذه المأساة، ومن خرج الشعب لإسقاطه، ما يزال يحكم، وإنْ بعضلات حلفائه؛ وليس ثمة بصيص أمل يلوح في الأفق.

هذا هو حال ثورتنا اليوم، ثورة لم تعد ملامحها مرئية وسط هذا الكم الهائل من البؤس والعنف والكراهية والرايات السود والشعارات الأكثر سوادًا.

إذن نحن أمام ثورة مهزومة، وعلينا الاعتراف بذلك بجرأة وثقة ومسؤولية، بعيدًا من المكابرة والمخادعة والأحلام التي لا يسعفها منطق أو واقع.

يقول التاريخ إن احتمالات نجاح الثورات أقل بكثير من احتمالات فشلها؛ فهي غالبًا ما تنتهي بالفشل، وغالبًا ما يكون سبب فشلها هو عدم توفر الشروط الموضوعية لنجاحها، وفشلها في هذه الحال يكون محتومًا، بغض النظر عن بطولات وتضحيات من قاموا بها، وبغض النظر عن عدالة ونبل القضية التي يحملونها. وثورتنا هي كذلك.

نعم، لقد هُزمت ثورتنا، للسبب نفسه، أي لعدم توفر الشروط الموضوعية لنجاحها، على الرغم من فداحة ما قُدِّم من أجلها، وعدالة وقدسية ما قامت من أجله.. فهل ثمة ما هو أحق وأعدل من مطلب الحرية والكرامة ورفع نير الاستبداد؟

من الشروط الموضوعية لنجاح الثورة توفر الدعم الخارجي الكافي والصحيح، الصحيح بمعنى الموجه إلى القوى التي ترفع راية الثورة وتتبنى أهدافها، دون أن يكون مثقلًا بشروط تنال من وحدة تلك القوى ومن استقلال قرارها، فلا ثورة من دون دعم، ومن هذه الشروط الموضوعية أيضًا توفر أصدقاء حقيقيين وازنين دوليًا، وتوفر ميزان قوى يسمح بتحقيق الانتصار، ومنها وجود نخبة سياسية ثورية واعية وحكيمة وقادرة، تملك رؤية وبرنامجًا وقرارًا مستقلًا. هذه الشروط يجب أن تتوفر مجتمعة لتحقيق الانتصار؛ وغياب أحدها كفيل بمنع الانتصار، فكيف إذا غابت جميعها كما هو الحال لدينا؟

كان الدعم الخارجي (الخليجي بشكل أساسي) كبيرًا وكافيًا، لكنه كان موجهًا ومثقلًا بشروط الداعمين؛ موجهًا الفصائل الإسلامية تحديدًا، المتطرف منها والأقل تطرفًا، والتي لم تعترف بالجيش الحر ولا بأجندة الثورة ولا بمشروع الدولة الوطنية الحديثة، بل كانت محارَبَةُ وإضعاف الجيش الحر وفكرة الدولة الوطنية على رأس أهدافها، وقد رفعت راياتها السود، وأعلنت مشاريعها الإسلامية، وعملت على تطبيق الشريعة في مناطق سيطرتها، وكانت تتحرك بشروط داعميها. أما الجيش الحر فكان نصيبه الحرمان والتجويع؛ ما أدى إلى ضعفه وتقلصه وتسرب عناصره إلى التنظيمات الإسلامية، حيث الطعام والذخيرة والرواتب؛ بالمحصلة كان الدعم سامًّا، وقد أدى إلى تشرذم الفصائل ودفعها للأسلمة وابتعادها عن الثورة.

أما ميزان القوى على الأرض، وفي المحافل السياسية، فكان دائمًا لصالح النظام وأعداء الثورة، فعلى الأرض حاربت إيران والميليشيات التابعة لها، بما فيها “حزب الله”، حاربَت بكل ضراوة إلى جانب النظام. ووفرت روسيا كل الدعم العسكري اللازم لجيش النظام، ثم حاربَت إلى جانبه مباشرة، منذ أيلول/ سبتمبر 2015. بينما لم يدعم أحدٌ الجيش الحر أو يساعده، واقتصر الدعم على التنظيمات السلفية كما أسلفنا. أما في المحافل السياسية فقد كان لعزوف الولايات المتحدة وتخليها السلبي دورٌ رئيس في ميل ميزان القوى لصالح أعداء الثورة؛ الأمر الذي مكّن روسيا من الاستفراد بمجلس الأمن وتعطيله، وتوفير الغطاء السياسي الدائم للنظام.

أما نخبنا السياسية والثقافية فكانت أصغر بكثير من حجم الحدث وتعقيداته، أضاعت البوصلة من أول الطريق، ولم تلتقطها حتى الآن، وارتهنت للخارج، واشتغلت على بعضها، وفشلت في تمثيل الثورة والدفاع عنها، بل كانت عبئًا عليها، ولم تستطع تشكيل حالة وطنية تستحق الاحترام، لدى السوريين ولدى غير السوريين.

فأي نصر كان يمكن لثورتنا اليتيمة أن تحققه، ضمن تضافر كل هذه الظروف والعوامل؟

نعم، كان بإمكان معارضة واعية متمكنة مستقلة، موحدة حول برنامج وطني ناضج، أن تصنع فرقًا لا أعرف مقداره. ويصبح السؤال: هل كان بإمكان معارضة تربّت في ظل استبداد استثنائي، ومارست السياسة في الأقبية والغرف المغلقة، أن تكون كذلك؟ لا شك أن ذلك سيكون أمرًا استثنائيًا لو أنه حصل.

لكن هذه الهزيمة ليست نهاية التاريخ، فقد تكون هزيمة مرحلة، وهذا ما أراه، فبعض الثورات تأتي على مراحل أو موجات، يفشل بعضها وينجح بعضها الآخر، تصعد وتهبط وتتحول من حال إلى حال، وقد تُنتج في المآل ثورة عظيمة تغيّر وجه التاريخ كما كان حال الثورة الفرنسية. وثورتنا لم تنته حتمًا، وما انتهى هو مرحلتها الأولى، لأنها فجرت داخل كل سوري ما يكفي لاستمرارها حتى نهاياتها. فقد هزت بعنف كل القناعات والأفكار والقيم والمسلمات والمقدسات، ورفعت الغطاء عن كل شيء، ووضعت كل شيء في بؤرة الفحص والتفكير، وفتحت باب النقاش والمراجعة على مصراعيه؛ ما يعني أنها ستبقى محمولة في الصدور حتى تستقر الأمور على ما يريح هذه الصدور. لكن ذلك لا يعني أن النصر سيكون مضمونًا في المرحلة القادمة، لأن قانون الشروط الموضوعية سيبقى حاكمًا للمرحلة القادمة، ولكل مرحلة قادمة، ولن يتغير الحال من هزيمة إلى نصر من دون توفر شروط موضوعية تسعف هذا التغيُّر.

لماذا علينا الاعتراف بالهزيمة، وتقبّل وتفهّم هذا الأمر الواقع؟ وهل يُعدّ عملنا هذا فعلًا انهزاميًا؟ أو ضربًا من الرضى والاستسلام والتسليم؟ وهل نساهم بدعوتنا هذه في إفشاء أجواء الإحباط واليأس؟

الاعتراف بالهزيمة ليس فعلًا انهزاميًا، ولا يعني التسليم والاستسلام، ولا القبول بالطاغية والعودة إلى حضن الوطن، كما لا يقصد منه إشاعة الإحباط واليأس، بل على العكس، هو الواقعية الثورية إذا صح التعبير، هو فعل ثوري، لكنه عاقل ومسؤول هذه المرة؛ لأن الاعتراف بالأمر الواقع هو المقدمة التي لا بدّ منها للانتقال إلى تجاوزه وتغييره. أما المكابرة وعدم الاعتراف والإصرار على السير قدمًا في العنتريات والمزاودات والبطولات الدونكيشوتية، فهذا فعل ثوري أهوج، غير عاقل وغير مسؤول، يخدم مسار الهزيمة ويجذِّره، ويضاعف الخسارات، ويطيل أمد المأساة، ويبعد فرص الخلاص.

القضية الآن هي كيف نستوعب هذه الهزيمة المؤقتة، وكيف نتمثّلها، ونفهم أسبابها وجذورها، ونستخلص دروسها وعبرها، لكي نتمكن من تخطيها وتصفية آثارها، ولكي نعرف بالضبط ما هي أولوياتنا القادمة، وكيف سنعمل عليها.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]