عن الزمن الأسدي المتبقي

عامر أبو حامد

يوهم النظام السوري ساكني المناطق التي ما زالت تحت سيطرته بأن الحياة قائمة، بسبب انتفاء الحرب. ويدفع جاهداً إلى أن يتجاوز ابتذال العادية نحو ادعاء الازدهار في تلك المناطق، من خلال رالي للدراجات الهوائية هنا وحفلة موسيقية هناك، عدا عن دعم الاستثمار في المجالات الخدمية والسياحية التي تساهم في إيجاد وعي وإدراك غير متوازنين عند الأهالي. فلا يتحسسون الفرق بين أسعار المواد الأساسية الباهظة وانقطاع الكهرباء والمياه واكتظاظ المقاهي والأماكن الترفيهية بالرواد، ويبدون غير مبالين بالرهيب والمرعب الذي يحصل على الجهة الأخرى من بلدهم.
قد يكون هذا المناخ مفيداً لبعض النازحين إلى المدينة، مليئي الجيوب، ممن شهدوا زمناً غير زمن الأسد، لكنه سام لمن لم يختبروا الخروج عن الزمن الأسدي، وحوصروا بالجغرافيا. في وقت سابق، كان على أهالي الساحل وبعض أحياء حمص ومركز مدينة دمشق أن يظهروا تفرغاً شبه كامل لمواجهة الثورة الموجهة ضدهم، بل شلَّ النظام، في بداية الثورة، الحياة في أكثر من مدينة في الساحل، بسبب المظاهرات، ناشراً أكاذيب عن عصابات مسلحة تجوب الشوارع. لاحقاً، تم إدخالهم في أعراس المسيرات والكرنفالات المؤيدة التي كانت تقول شيئاً واحداً في كل مرة “نحن مع بشار الأسد حتى يموت أو نموت”. كان الانتباه والتحضّر والخوف مطلوبين من الأهالي، لتتكرس مناطقهم مضمونة الولاء، ولتوظيف المنفذ الأهلي للقضاء على أي محاولة داخلية لرأي مغاير، كما حدث مع ناشطين كثيرين تمت تصفيتهم أو سلمهم الأهالي إلى الأمن.
وإذا كان التغيير في غير مكان في سورية لم يحسم اتجاهه بعد، فإن إخافة الناس في المناطق الموالية، تهييجهم ثم ضمان ولائهم المطلق، وأخيراً، حبسهم في مكان وزمان محددين، أنتج ارتكاساً رهيباً في هذه البيئات الاجتماعية. فمن العدو بيننا إلى العدو على حدودنا، تحولوا إلى عناصر خاملة ولا مبالية. فلا يصلُ من الأخبار إلى مستوى الحديث العام سوى التي تتعلق باقتراب جبهة النصرة أو ابتعادها، ولا يتفاعل الناس مع الحدث، سواء من خلال أبنائهم المرسلين إلى الجبهات، من دون أي مساءلة أو تفكير. تحولت هذه المناطق إلى شبه ولايات مغلقة مؤمنة عسكرياً، علق الزمن فيها على الرتم الأسدي، على خلاف بقية المناطق التي شهدت تحولات مختلفة، حطمت ركود الزمن، ووضعت الناس أمام تحدياتٍ، حتّمت عليهم التغيير.
في الحقيقة هذا الزمن الأسدي الذي تكسر في سورية المحررة، علق في سورية النظامية، أُفرط في جعلها نظامية، فجرى تنظيم الخوف والحرب، وإضافة الاستلاب الحياتي السابق، والنتيجة كانت فرداً مضطرباً وغير واعٍ للزمن، محصوراً في مكان جغرافي منقطع عن محيطه، وغير مستقل في الوقت نفسه، ليس له منفذ سوى الخط الواصل بين اللاذقية ودمشق، إذ لا رحلات جوية وبحرية تنطلق من تلك المناطق، وأخيراً يصعب النفاذ حتى إلى لبنان. السوري في المناطق الموالية لا يعبأ ولا يهتم، لا يناقش ولا يسأل، يتململ من غلاء الأسعار ونقص الوقود والكهرباء، ولا تصل همومه وأفكاره إلى مجازر البراميل. بل هذه المجازر لا تحدث عملياً في الزمن الأسدي المتبقي، لأنه زمن كثيف وثقيل، ويُسهّل السيطرة الكلية، بعد أن انكفأ إلى أقل من ثلاثين في المائة من مساحة الأرض.
ليس النظام والجغرافيا وحدهما صانعي هذا الفوات الزمني لسوريي المناطق الموالية. بدا خيار الولاء للأسد، في البداية، سهلاً ومستساغاً لهم، لأنهم فوّتوا اللحظة الفاصلة التي أدركها بقية السوريين للخروج عن زمن الأسد، وتابعوا اعتقادهم بأن هذا الزمن أبدي ومطلق، حتى سحبهم الوهم، وغدوا ضحايا أنفسهم أيضاً. سيخرج قاطنو هذا الزمن المتعفن مع نهاية الحرب متأخرين عن بقية السوريين سنوات، وربما عقوداً. حصتهم وحقوقهم من أي عملية سياسية أو تسوية قادمة غير مضمونة وصعبة التحصيل، فالزمن الأسدي المتبقي مُعاود وخبيث، وهم آخر من سيغادره.
المصدر: العربي الجديد