اللاذقية وميدان “التعتير”

سوسن جميل حسن

ما يميز الانتفاضات والحركات الراهنة التي انبثقت من لجة الجمود أنها تُنسب إلى جيل الشباب، أولاً، حتى إنها وصفت، منذ البداية، بأنها ثورة صنعها الشباب، ومرجعيتها فيما يتعلق بالتغيير ثانياً. فالديمقراطية التي نادت الجماهير المتظاهرة في الميادين بها لم تعد شعاراً أجوف، رددته الأجيال عقوداً بشكل ببغائي، تلقنتها من مناهج الحشد العقائدي، وكتب التربية القومية، كما في سورية، بل الديمقراطية حاجة ضرورية لمواجهة ممارسات الأنظمة القمعية، وبما تحمل، في متنها، من مطالب استرداد الإرادة والقرار والدفاع عن الكرامة المنتهكة، ومحاربة الجوع والفقر والبطالة والحرمان من الحقوق الأساسية لكل إنسان، والقضاء على الفساد الراسخ دعامة أساسية لاستمرار تلك الأنظمة وثباتها، وصار للميادين شهرتها، ميدان التحرير بشكل أساسي، في مصر، في اليمن، والآن في بغداد.
لكن، هل يمكن الحديث، بعد ما جرى في دول الانتفاضات، وفي ظل الحروب الراهنة والآلية الممنهجة العنيفة التي تدمر فيها البلدان والمجتمعات، عن ثورة يصنعها الشباب بعدما أشعلوا فتيلها؟ أين هم الشباب في ظل الزلازل الراهنة؟
دوّار الزراعة الذي تفتح عليه أربع طرق من جهات مدينة اللاذقية الأربع، ليس ميداناً كبيراً، لكنه عقدة مرورية دائمة الازدحام في المدينة، وهي دليل إنشائي دامغ على مرحلة الفساد الحكومي، في اللاذقية خصوصاً وفي سورية عموماً، فقريناتها لا تعدّ في باقي المدن السورية. شهد تجمعات حاشدة فيما مضى، منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في سورية، مروراً بكل التحوّلات التي حرفتها إلى حرب شرسة، فيها ما فيها من كل أشكال الوقود والاستعار، وصولاً إلى اليوم الذي قُتل فيه ضابط في الجيش العربي السوري على يد واحد من الشباب الذين وصموا العقود الأربعة الماضية بسلوكهم الجانح، واستهتارهم بكل أشكال القيم والقوانين، متكئين في جرائمهم التي لا يمكن توصيفها ولا تصنيفها، على أن هناك من سيحميهم، بحكم انتمائهم العائلي ولقبهم الذي لحق بسورية، لازمة ملكية عنيدة، فكوفئ الضابط بترفيعه من رتبة عقيد في الجيش العقائدي إلى عميد فيه، وبقي أهله ومحيطه ينتظرون ما سيكافأ به القاتل.
شهد دوار الزراعة حشداً جماهيرياً كثيفاً منذ أول الأزمة، مثلما كانت تخرج الجماهير وتتدفق من جهات المدن السورية، رداً على تظاهرات أيام الجمع، ترفع الأعلام والصور وتهتف ضد المؤامرة، تتوعد أذنابها، وتعاهد الرئيس بالروح والدم. ولطالما كوفئت هذه الحشود التي كانت تعرف تماماً كيف تخرج من المدارس والجامعات والمعامل والشركات والوزارات والمديريات والنقابات والمنظمات وغيرها، في مسيرات حفظت شعاراتها عن ظهر قلب، بإحياء حفلات في الهواء الطلق في الساحات، ورائدها كان دوّار الزراعة، فكم اعتلى منصته من مطربين غنوا لسورية وقائدها وجيشها الذي يسطر أنبل أشكال البطولات في دحر المؤامرة الكونية، والقضاء على الجهاديين الإرهابيين القادمين من بقاع الأرض. والواقع لم يكذّبهم فقد صارت سورية قبلة أخرى للمتطرفين باسم الإرهاب، وتحوّلت الشعارات التي نادت بدايةً “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد” إلى “بالذبح جيناكم”، فكان لهذا التحوّل الوليد من رحم العنف الذي صار وحده المشهد السوري الحصري، بعدما لم تصمد السلمية أمام بطش النظام، إلاّ شهوراً قليلة، فردّ العنف بعنف مقابل، كان له أثره العميق في الموقف من الحراك الشعبي. هذا الموقف الذي لم يُنظر إليه نظرة موضوعية، ولم يُؤخذ باهتمام الباحثين، بل كان الخطاب الوحيد صاحب الصوت هو فرز الموقف إلى فئتين، موالاة ومعارضة، مع النظام وضد الثورة، أو مع الثورة وضد النظام.

وفي تلازم الخطاب مع الحشد الطائفي من كل الأطراف، والعمل الدؤوب للوسائط بكل أشكالها، والتدخل الخارجي في الواقع الفكري والميداني السوري، صار تصنيف الفريقين على أساس طائفي فقط، دعمه دخول حزب الله ميدانياً والدعم الإيراني للنظام، ودعم السعودية ودول الخليج وتركيا الكتائب المسلحة على اختلاف تسمياتها، فصارت الطائفة العلوية مسؤولة بشكل كامل عن عنف النظام، وصار الشارع السني مسؤولاً بالكامل عن العنف المقابل، ومتهماً بتنفيذ أجندة المؤامرة على الدولة السورية. لكن الواقع أعقد من هذا بكثير، والأدلة عديدة، ومنها ما يحصل لجيل الشباب السوري، اليائس الذاهل الذي ضيّع حلمه ومشروعه.
عند المساء، وبعد أن تبدأ الشمس الماضية بلا وعود في رحلة غيابها، يبدأ ارتسام المشهد اليومي. زحف بشري هائل يتقدم باتجاه الدوّار، وسط الازدحام والضجيج والاختناق المروري وأصوات المولدّات التي تعمل بديلاً عن التيار الكهربائي النظامي. بعد قليل تفترش الأجساد الأرض، على الأرصفة، على عتبات الأحواض المزروعة بالأشجار ونباتات الزينة في الشوارع، في الجزر المنصفية، في كل مكان، حشد هائل من البشر، غالبيتهم من الشباب العاطل عن العمل والأمل. شباب بعمر الطاقة والإبداع، وعمر الطموح والبناء، يتكومون على أرصفة الضياع، يتطلعون إلى الحياة ولا ينظرون، يبدون كما لو أنهم لا يكترثون بشيء، بل كأن كل ما حولهم سطوح بلا بعد ثالث.
معظمهم في عمر الدراسة الجامعية من أبناء الساحل، وباقي المناطق السورية المدمرة، يماطلون في الوقت، ويشتغلون بحمية على أمر واحد فقط، هو إطالة أمد الدراسة بالهروب من النجاح، والترفع في الصفوف، هم يريدون أن يبقوا على مسافة من التخرج، من نيل الشهادة التي كانت حلماً كبيراً فيما مضى، وعتبة الدخول إلى الحياة والعمل وبناء الغد. شباب لا يريدون أن ينالوا الشهادة الجامعية، هروباً من موت يزيّن لهم على أنه شهادة أسمى. موت رفيع اسمه الشهادة في سبيل القضية، بينما يفتقرون إلى القضية.
من يتخرج من الجامعة، أو يستنفد فرص النجاح وفرص التأجيل من الخدمة الإلزامية، ينتظرهم “السَّوْق” إليها، مثلما لو كانوا قطعاناً. فلماذا يغادرون نعيم الفشل الدراسي؟ لماذا يحلمون بالنجاح والتخرج؟ حتى لو لم يساقوا إلى الموت في جبهات حرب تفتقد لأي شكل من الحروب النمطية، فليس أمامهم مجال لإبداع الحد الأدنى من حياتهم. لا فرص عمل، لا وظائف، لا شيء غير الخيبة والكآبة واليأس، ومواجهة أزمات الحياة التي تكبر كلما دحرجها الزمن، مثل كرة ثلج حتى تصير بحجم الجبال.
هذا الشباب مطرود من الأمكنة، مطرود من المجالات كلها، شباب ينتمي إلى أزمنة ضائعة ومضيّعة، يجتمع، كل يوم، من دون موعد، إلاّ نداء الفراغ الذي يلمّهم في ساحةٍ، كان يمكن أن تكون ميداناً للشباب المتظاهر بسلمية لأجل المطالبة بحقه في الحياة الكريمة التي تليق بإنسانيته، لكن السلمية في بلد، مثل سورية، هي أمل لا يُرتجى، ولقد أظهرت أربعة أعوام ونيف من الحرب أن المقاومة اللاعنفية لا تثمر في أرض هذه البلاد، أرضها مرصودة للدم والثأرية المتأصلة والتاريخ المتجذر بكل عنفه وعقائده الراسخة.
لا يملك دوّار الزراعة اليوم أن يُسمّى بأكثر من ميدان “التعتير”، هذه الكلمة العامية الشائع تداولها في اللغة الدارجة السورية، التي تقال لوصف الشخص، ذي الحظ العاثر الذي لا حول له ولا قوة. دوّار الزراعة في اللاذقية هو ميدان البؤس والحياة الآيلة إلى السقوط بالشباب في سن يأس جماعي، عجّلت في استفحاله الجريمة السافرة المجسدة التي قام بها شاب من عمرهم، وهي في طريقها إلى النسيان.

المصدر: العربي الجديد