حتى لا تتورط موسكو في سوريا مثل أفغانستان!


صالح القلاب

يبدو، بل إنه من الواضح، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يسعى لفرض نفسه وفرض بلده، روسيا، على هذه المنطقة الملتهبة بالاعتماد على ارتباك السياسة الأميركية وعدم استقرارها على موقف واحد وبخاصة بالنسبة للأزمة السورية؛ إذ انتهى موقف إدارة باراك أوباما الذي يعبر عنه وزير الخارجية جون كيري، تجاه مصير الرئيس السوري بشار الأسد إلى كلام ضبابي غير مفهوم، حيث قال موجهًا حديثه إلى زميله سيرغي لافروف «إن عليه أن يرحل لكن ليس فورًا».
والغريب أن كيري قد دعا روسيا وإيران بلهجة استجدائية إلى استغلال نفوذهما لإقناع الأسد ليس بالتنحي وإنما بالتفاوض: «نحن مستعدون للتفاوض فهل الرئيس السوري مستعد للتفاوض.. التفاوض بحق»، وعن الرحيل الذي يتحدث عنه قال وزير الخارجية الأميركي: «ليس بالضرورة أن يكون من اليوم أو الشهر الأول.. هناك عملية يجب أن تجتمع فيها كل الأطراف معًا للتوصل إلى تفاهم بشأن كيفية تحقيق ذلك على أفضل وجه».
وهذا فهمه الروس على أنه تراجع أميركي عن مواقف سابقة واستعداد للقبول بالرئيس السوري حتى نهاية «ولايته» الحالية وربما حتى نهاية ولاية ثالثة، وأيضًا استعدادٌ للقبول به في التحالف المنشود ضد الإرهاب الذي دأب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الترويج له لهدف واحد ووحيد وهو إعادة تأهيل بشار الأسد وفرْضه بالقوة ليس على المعادلة السورية فقط وإنما أيضًا على المعادلة الشرق أوسطية.
إن هذا الأمر أصبح واضحًا وضوح الشمس، في يوم لا غيوم فيه ولا ضباب، ولذلك فإن المفترض أن الذين يراقبون المشهد من واشنطن قد سمعوا تصريحات وزير خارجية بشار الأسد التي قال فيها: «إننا نعوّل على التدخل الروسي لقلب الموازين» وقد شاهدوا بأمهات عيونهم كيف أن النظام السوري قد انتقل في الأيام الأخيرة من مواقع الدفاع إلى مواقع الهجوم وأنه لجأ إلى تكثيف غاراته الجوية على كل أمكنة وجود المعارضة السورية (المعتدلة).
وحقيقة أن ما يبعث على الحيرة والاستغراب هو أنَّ الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته قد واجها هذا التطور الخطير الذي لجأ إليه الروس ببرود أعصاب وبنوع من الاستسلام المذل للأمر الواقع.. اللهم إلاَّ إذا كان وراء الأكمة ما وراءها، كما يقال، وإلاَّ إذا كانت واشنطن تريد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين المزيد من التورط في الرمال السورية المتحركة على غرار تورط أسلافه، زمن الاتحاد السوفياتي، في أفغانستان حيث كانت نهاية الإمبراطورية السوفياتية «العظيمة»!! نهاية مأساوية بالفعل.
ولذلك وإذا كان هذا التقدير صحيحًا فإنه من حق النظام السوري أن يحلم بأن التدخل الروسي سيقلب موازين القوى لكن ومع ذلك فإنه على القائمين على هذا النظام المتهاوي وفي كل الحالات أن يتذكروا أن الرئيس الأفغاني بابراك كارمال كان قد حلم، بدوره، بأن التدخل العسكري السوفياتي في بلاده سيقلب موازين القوى في أفغانستان.. والحقيقة أن ذلك التدخل قلب موازين القوى في تلك الدولة الإسلامية وأحل محل حزب «برشام» الشيوعي الحاكم حركة طالبان و«القاعدة» وأحل محل «الرفاق» الماركسيين – اللينيين الملا عمر وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وكل هذه الأوضاع المأساوية المفتوحة على شتى الاحتمالات!!
إن كل التقديرات العقلانية، التي بالتأكيد يرفضها «جهابذة» هذا النظام السوري ومعهم الذين يصفقون لانتصارات بشار الأسد الوهمية عن بعد، تقول إن فلاديمير بوتين قد استغل رداءة السياسة الأميركية في هذه المنطقة، واستغل تردد باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري، وتردد الغرب عمومًا، فبادر إلى هذه «المغامرة»، وهو يدرك أن عليه ألاَّ يذهب بعيدًا حتى لا تتكرر كارثة التورط في أفغانستان، وأن عليه أن يكتفي من مبارزة تبادل عض الأصابع هذه مع الأميركيين بإلزامهم بتراجع «معقول» في أوكرانيا وبالنسبة لنشر صواريخهم في بعض دول أوروبا الشرقية.
لا شك في أن بوتين يعرف، بحكم أنه ضابط استخبارات سوفياتي (كي. جي. بي) سابق، أنه لو لم يتدخل الكرملين في عهد ليونيد بريجنيف ذلك التدخل العسكري الأهوج في أفغانستان لما كان زوال الاتحاد السوفياتي بتلك الطريقة «الدراماتيكية» المرعبة وربما لما كان هناك هذا الإرهاب الذي غدا متجذرًا في الكثير من دول العالم.. وبالطبع لما سمع العالم لا بـ«القاعدة» ولا بـ«أسامة بن لادن» ولا بـ«طالبان» وبـ«الملا عمر» ولا حتى بـ«داعش»، ولما حدث في باكستان كل هذا الذي حدث قبل وبعد تفجير طائرة الرئيس الباكستاني الأسبق ضياء الحق في تلك الحادثة المعروفة.
على فلاديمير بوتين أن يدرك أنَّ دمشق ليست غروزْني وأن سوريا ليست الشيشان كما أن عليه أن يضع في حسبانه أنه إنْ هو تورط بالمزيد من التدخل في هذا البلد الذي أصبح بمثابة قنبلة موقوتة فإن نهايته ستكون أسوأ كثيرًا من نهاية أسلافه بعد التدخل في أفغانستان.. على الرئيس الروسي ألاَّ يطرب لزغاريد «جهابذة» النظام السوري وأن يدرك أن «قلب الموازين» التي تحدث عنه وليد المعلم سيكون بمثابة كارثة محققة عليه وعلى روسيا وعلى الجيوش التي أرسلها والتي قد يرسلها إلى بلد مسلم أصبح بمثابة معسكر كبير وإلى دولة لا يزال العرب يعتبرونها «قلب العروبة النابض».
منذ الآن وحتى قبل أن تتكامل وتكتمل صورة التدخل الروسي في سوريا فإن الواضح أن هناك من بات يدعو إلى «الجهاد» لتحرير بلد عربي ومسلم من احتلال أجنبي ويقينًا أنه إنْ لم يتدارك الرئيس بوتين الأمور بسرعة ويبادر إلى «الاكتفاء» من الغنيمة بالإياب فإنه سيجد قواته التي غدت تحتل سوريا تحارب أبناء الجمهوريات الإسلامية المنضوية ولو شكليًا في إطار: «الاتحاد الروسي».
إنه على بوتين أن يدرك أنَّه لا شرعية إطلاقًا لمن رحبوا بتدخله العسكري في سوريا، فهؤلاء وفقًا للشعب السوري ووفقًا لمعظم العرب والمسلمين يمثلون «طائفة» هي الطائفة التي فرضوا ويفرضون أنفسهم ونظامهم عليها بالقوة والتي ربطوها قسْرًا بالولي الفقيه في طهران.. إنه على بوتين بحكم تجربة بلده في أفغانستان أن يدرك أن نهاية بشار الأسد ستكون في أحسن الأحوال كنهاية حفيظ الله أمين وكنهاية بابراك كارمال.. وكنهاية محمد نجيب الله التي كانت نهاية شديدة البشاعة ومأساوية.
إن بإمكان فلاديمير بوتين أنْ يلعب هذه اللعبة، بعيدًا عن التورط في أفغانستان ثانية، وعلى طريقة نيكيتا خروشوف في لعبة ما سمي بـ«الصواريخ الكوبية»، حيث ردَّ على التمادي الأميركي في تحدي الاتحاد السوفياتي بنقل صواريخ استراتيجية عام 1962 إلى كوبا (فيدل كاسترو) التي كانت ولا تزال تشكل مجالاً حيويًا للولايات المتحدة الأميركية، لكنه أي خروشوف لم يذهب بالتحدي بعيدًا وقد قَبِلَ، تفاديًا لما هو أعظم، بما اعتبر «مساومة تاريخية» وتنازلات متبادلة بين موسكو وواشنطن.
كان الاتحاد السوفياتي قد ردَّ على غزو الأميركيين لـ«خليج الخنازير» الذي اعتبر وقتها محاولة أميركية لإسقاط نظام فيدل كاسترو (الشيوعي) بإرسال عدد من الصواريخ المتوسطة المدى إلى كوبا، تلك الصواريخ التي كان بالإمكان أن تهدد موسكو بها معظم الأراضي الأميركية.. والحقيقة أن هذه الخطوة التي كادت تؤدي إلى حرب نووية قد جاءت نتيجة تراكم الكثير من الأزمات بين هاتين الدولتين، من بينها بالإضافة إلى أزمة الصواريخ هذه، نشر الولايات المتحدة صواريخ في بريطانيا وإيطاليا وتركيا.. وإقامة الكثير من المحطات الإذاعية الموجهة بلغات كثيرة إلى دول المنظومة الاشتراكية وبخاصة دول أوروبا الشرقية.
لكن وبعدما وصل التصعيد بين هاتين الدولتين النوويتين إلى الذروة تم استيعاب تلك الأزمة من قبل جون كيندي ونيكيتا خروشوف وإقامة خط ساخن بين موسكو وواشنطن لمعالجة أي أزمات طارئة، وهذا من الممكن أن ينطبق الآن على أزمة وجود صواريخ أميركية مهددة لروسيا في بعض دول أوروبا الشرقية وعلى أزمة القرم والأزمة الأوكرانية، وذلك دون الحاجة إلى تورط روسي في سوريا سيكون إنْ مضى به فلاديمير بوتين، على غرار تورط الاتحاد السوفياتي في أفغانستان.

المصدر: الشرق الأوسط