رسالة إلى العلويين ومنهم


أحمد عدنان

العلويون جزء أصيل وراسخ في المنطقة ومنها، ولا بد من التمسك بوجودهم واحتواء هواجسهم، ولهم فضل لا بد أن ينسب لهم وهو حفظ الحريات الاجتماعية في مجتمعات المسلمين.

قلنا مرارا وتكرارا، أن الصراع مع إيران ليس صراعا مع الشيعة ولا يجب أن يكون كذلك، وأن الصراع مع بشار الأسد ليس صراعا مع العلويين ولا يجب أن يكون كذلك.

قبل أسابيع، تشرفت بزيارة المعقل العلوي في لبنان، جبل محسن، وقدمت الزيارة انطباعا أكثر من إيجابي، ليس هناك عَلَم واحد لإيران أو لما يسمى بحزب الله، ليس هناك صورة واحدة لخامنئي أو لحسن نصرالله، لن تجد علم الثورة السورية ولن تجد علم النظام، الأعلام اللبنانية وحدها تسود الشوارع، هناك صورة واحدة لبشار الأسد قديمة ومتآكلة تتصدر عقارا يملكه أحد عملاء البعث.

تشرفت بمقابلة وجيه مرموق في الجبل، قال لي إن العلويين هنا يعيرونهم بأنهم سوريون، وفي سوريا يعيرونهم بأنهم لبنانيون ولا يقدّرون بأنهم علويون مطلقا، يقول الوجيه المحترم أن حلم الطائفة العلوية في لبنان هو حلم المواطنة لا أكثر، لا ينكر أن هناك تعاطفا مع بشار الأسد سببه أنه علوي فقط، وهذه العصبية ظاهرة بسبب إهمال الدولة وإهمال الأحزاب اللبنانية وإهمال العرب للعلويين، لم تقدم سوريا الأسد أو إيران أي شيء لجبل محسن، وهذا يمكن رؤيته بالعين المجردة، البنية التحتية متهالكة إذا كانت موجودة، الفقر والحرمان والبؤس جاثمة على الجبل ورقاب أهله، تتصور أنك عدت خمسين سنة إلى الوراء خارج التنمية والدولة، وهي تشبه تماما المناطق السنية الملتحمة معها، كالتبانة والمنكوبين.

ومع ذلك أود أن أوجه التحية لمؤسسات المجتمع المدني الفاعلة في جبل محسن وما حولها، رغم كل هذا السواد لعبت دورا كبيرا في تثبيت السلم والتخفيف من وطأة الألم على الناس، الحروب الأهلية الصغيرة التي دارت بين التبانة وجبل محسن تم تجاوز الكثير من آثارها، الأبنية تطلى وترمم، والشوارع تعبد والأرصفة تقطب، والأهم في كل ذلك هو الناس، تقوم الجمعيات المدنية بفعاليات رياضية وفنية ومشاريع حضارية تداوي النفوس وتحارب الطائفية، حين قام داعش باستهداف جبل محسن مطلع العام الماضي، زارت عائلة الانتحاري الجبل وأدانت الجرم وفاعله، وبوعي الجبل وبوعي السنة تم تجاوز الفتنة، حين نزيح الطائفية يتشابه البشر، ولو نسينا أسماء جبل محسن والتبانة والمنكوبين، لن نعرف العلوي من السني، لكننا سنعرف أن الغالبية طيبة، وأنهم سواء حرمانا وفقرا وبؤسا.

هذه هي الصورة التي وجدتها في جبل محسن، والغريب هو الصورة المقابلة التي وصلتني من سوريا قبل أيام معدودة، الوجيه السوري القادم من اللاذقية غاضب ومستاء، يقول إن إيران تعلنها حربا دينية ضد الطائفة العلوية، المساعدات مشروطة بالتشيع وبتحجيب النساء، هناك حرب شعواء تقودها إيران على العادات الاجتماعية والحريات الخاصة، العَرق والاختلاط والدبكة أصبحت من المحرمات، أي أن الإيرانيين الذين يزعمون التحالف مع العلويين أو الدفاع عنهم، يفعلون ما هو أسوأ، يحاربون العلوية نفسها.

اجتماعيا، تمزق النسيج العلوي السوري، فوق ثمانين ألف قتيل أعلنوا فناء جيل كامل، شباب مشرد يده على الزناد يخشى القتل ويخشى الغدر، وضع المخيمات اقتصاديا ومعيشيا أفضل من قرى الجبل، إيران توطن شيعة من لبنان ومن العراق في المناطق العلوية السورية لقلب الموازين والهوية، سماهم الوجيه العلوي بـ”المستوطنين” على غرار الاستيطان الإسرائيلي، العائلات العلوية العريقة أصبحت موضع استهداف إيراني كونها من عوائق مشروع التشييع، انقسم علويو سوريا بين علويي إيران بسبب مالها، وبين علويي روسيا لصد التجريف الإيراني، والأدهى أنهم لا يثقون بالروس، لن يبقوا طويلا، ومجازرهم بحق السنة ستعقد التعايش السني العلوي المأزوم أصلا بسبب التدخل الإيراني.

في المملكة السعودية يعمل المئات من العلويين إن لم نقل الآلاف، لم تضر أرزاقهم ولا هويتهم قبل الثورة السورية أو بعدها، وتاريخيا ليس للمملكة هاجس استهداف الأقليات أو إبادتهم، هؤلاء الإسماعيلية يعيشون في المملكة لا تعرف الفرق بينهم وبين السنة، وهنا لا بد من لفت النظر إلى خصوصية طائفية طريفة، فالطائفة تصب مشاعرها السلبية على المنشقين عنها، وتتغاضى عن منشق المنشق، وترجمة ذلك أن الشحن الذي تجده سنيا على الشيعة يزول موضوعيا حين ننتقل إلى المنشقين عن الشيعة كالإسماعيلية والدروز، وفي المقابل فإن الشحن الشيعي على السنة يتم نسيانه شيعيا إذا وضعت في كفة أخرى الإسماعيلية أو العلوية، ومن هذا المنطق أستذكر مقولة معارض علوي “برود سعودي أفضل من ابتسامة إيرانية”، وسبب ذلك هو ما ذكرته، في أسوأ الحالات فإن السعودية قد تختلف سياسيا مع بعض العلويين أو أغلبهم، وقد تصل الأمور إلى صراع عسكري لكن إطاره سياسي دائما، لكن إيران تختلف مع العلوية نفسها وتريد استئصالها، أحد المراجع الشيعية في لبنان قال لعلويين سوريين بأنه سيزور النجف فهل يوصون بشيء من المراجع، فرد وجيههم العلوي “لا نريد المراجع، نريد الحماية”.

أصدر في عام 1936 مفتي فلسطين الأكبر، ورئيس المؤتمر الإسلامي العام، الحاج أمين الحسيني، فتوى قال فيها “إن هؤلاء العلويين مسلمون، ويجب على عامة المسلمين أن يتعاونوا معهم على البر والتقوى ويتناهوا عن الإثم والعدوان، وأن يتناصروا جميعا ويتضافروا، ويكونوا قلبا واحدا في نصرة الدين، ويدا واحدة في مصالح الدين، لأنهم إخوان في الملة، ولأن أصولهم في الدين واحدة ومصالحهم مشتركة”.

وفي العام 1938 أصدر شيوخ العلويين بيانا جاء فيه “إن صفوة عقيدتنا ما جاء في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، بسم الله الرحمن الرحيم (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد)، وأن مذهبنا في الإسلام هو مذهب الإمام جعفر الصادق، والأئمة الطاهرين، سالكين بذلك ما أمرنا به خاتم النبيين سيدنا محمد، حيث أوصى بالتمسك بكتاب الله وعترته أهل البيت. هذه هي عقيدتنا نحن العلويين، أهل التوحيد، وفي ذلك كفاية لقوم يعقلون”.

وفي نفس العام أصدروا بيانا آخر “نحن الموقعون الشيوخ الروحيون المسلمون العلويون، دحضا لما يشاع عن أن المسلمين العلويين غير مسلمين، وبعد التداول بالرأي والرجوع إلى النصوص الشرعية، قررنا البندين التاليين: كل علوي فهو مسلم يقول ويعتقد بالشهادتين، ويقيم أركان الإسلام الخمسة. كل علوي لا يعترف بإسلاميته، وينكر أن القرآن الشريف كتابه، وأن محمدا نبيه، فلا يعد بنظر الشرع علويا”.

أذكر بهذه البيانات والتصريحات للتدليل على أجواء ما قبل اللحظة الطائفية، لا يهمني كثيرا إن كان العلويون مسلمين أو غير مسلمين، فليعبدوا من شاؤوا كيف شاؤوا، ما يهمني أنهم جزء أصيل وراسخ في المنطقة ومنها، ولا بد من التمسك بوجودهم واحتواء هواجسهم، ولهم فضل لا بد أن ينسب لهم وهو حفظ الحريات الاجتماعية في مجتمعات المسلمين، ولولا وجودهم لكانت بعض مناطق التحضر العربية انقلبت إلى تورا بورا.

تستغل إيران نظرية تحالف الأقليات لضرب النسيج العربي والدولة العربية، وما أقوله هنا، أن الطرف العربي، وعلى رأسه المملكة العربية السعودية، يجب أن يضرب النظرية الإيرانية بتحالفات عابرة للطوائف معزرا قيمة المواطنة في المملكة وفي العالم العربي، وفي ذلك غير مكسب إضافة إلى وأد المشروع الإيراني، أهمه، مثالا لا حصرا، تمدد معنوي عابر للحدود وتوسيع شبكة التحالفات خارج النطاق التقليدي وحفظ التنوع والعروبة والإسلام، وفي هذا استهداف قاطع للمشروع الإرهابي الذي يمثله داعش وأخواته أيضا، والأهم من كل ذلك أن هذا هو الحق، وذلك منطق التعايش والاحترام المتبادل، فلنتوقف عن تسليم محيطنا إلى إيران أو إلى الإرهاب، إسقاط بشار الأسد يبدأ من الطائفة العلوية، هذه مصلحتنا ومصلحتهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.