معضلة الديمقراطية الشكلية: هل ما يحدث في البرازيل هو «انقلاب ناعم»؟


انقلاب أم لا؟ هكذا تساءل «يوري فريدمان» في أول مقالته على موقع «ذي أتلانتيك». فبينما تدعي «ديلما روسيف» رئيس البرازيل أن الاتهامات المتصاعدة ضدها، التي قدمها مجلس النواب في الكونغرس، لا تستند إلى أي أساس قانوني مؤكدة أنها ليست إلا محاولات «انقلاب»؛ ينفي نائبها ما قالته. يقول «ميشال تامر» – نائبها الذي من المفترض أن يتولى الرئاسة إذا ما تمت إقالتها – إن كل الإجراءات تتم وفقًا للدستور وليست انقلابًا على الإطلاق.

في تصريح لـ«نيويورك تايمز»، أعرب «تامر» عن قلقه تجاه تصريحات روسيف التي تشير إلى اعتقادها أن البرازيل جمهورية صغيرة يسهل حدوث انقلاب بها، فحدوث انقلاب في دولة تعد أحد أكبر الاقتصاديات والديمقراطيات في العالم بالتأكيد له عواقبه.

تاريخ انقلابات حافل بدأ في الاختفاء

يذكر الكاتب أن الانقلابات العسكرية قد تضاءلت كثيرًا عن القرن الماضي. حسب ما ورد في قاعدة بيانات عمل عليها جوناثان بوويل وكلايتون ثاين – عالمان سياسيان – تشمل جميع الانقلابات العسكرية في الفترة من 1950-2015، لم تنجح الانقلابات إلا بمعدل 3 انقلابات سنويًّا في القرن الحادي والعشرين، بينما بلغ العدد في الستينيات من القرن الماضي 12 انقلابًا في العام. حاول علماء آخرون الوصول لتعريف لمصطلح «انقلاب». يقول «جاي أولفيلدر» في تعريفه «هو الاستحواذ على السلطة السياسية الوطنية بالقوة سواء من قبل الجيش أو سياسيين من الداخل». وحسب ما أوردته قواعد بيانات بوويل وثاين نجد أن محاولات الانقلاب تركزت في القارتين الأفريقية بنسبة 37% وأمريكا اللاتينية بنسبة 32%. تمكن «جاي أولفيلدر» من تصميم مجموعة من الرسوم التوضيحية والخرائط لإمكان الانقلابات استنادًا للبيانات التي جمعها بوويل وثاين.

يقول الكاتب إن التفسيرات النظرية لذلك الانخفاض في معدلات الانقلاب كثيرة، ولعل أهمها هو انتهاء الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا وبالتالي انتهاء محاولاتهما دعم الانقلابات العسكرية، فضلًا عن كون الديمقراطية صارت هي الشكل الوحيد لشرعية الحكومات، وبالتالي أصبح أي شكل لتعطيل الديمقراطية منبوذًا. وعلاوة على ذلك، جعلت العولمة من أي استيلاء على السلطة بشكل غير قانوني باهظ التكلفة لما يسببه من عدم استقرار سياسي أو اقتصادي، بسبب العقوبات الدولية. ولعل هذا الأخير هو ما جعل «تايمر» ينفي سريعًا ما صرحت به روسيف.

View image on Twitter

يرى الكاتب أن على الرغم من تضاؤل ظاهرة الانقلابات درجة الاختفاء مؤخرًا، يظل هناك ارتباك عميق حول تصنيف التصعيدات السياسية أو الثورية التي تمجد القانون في ظاهرها وليس روح القانون، ويطلق عليها الديمقراطيات الشكلية.

بين شبح انقلابات الماضي والذاكرة الحديثة

وفقًا للكاتب، يبدو من الصعب محاولة عقلنة التطورات في البرازيل أو غيرها من الديمقراطيات الحديثة نسبيًا حيث لا تزال مؤسساتها هشة، فضلًا عن صعوبتها عندما تكون الأغلبية بما فيها الطبقة المتوسطة متفقة على مطالب بعينها (حوالي 60% من البرازيليين يدعمون إقالة روسيف). ولعل الأصعب هو سيطرة شبح الماضي من الانقلابات العسكرية على العامة وقادتهم السياسيين – خاصة بعد أن تمتعت البرازيل بحكومات ديمقراطية عقدين من الزمان.

يقول الكاتب إن حوالي نصف البرازيليين لم يعهدوا فترة الانقلابات العسكرية، فأعمارهم لم تبلغ الثلاثين بعد، لكن النصف الآخر من السكان الذي تجاوز الثلاثين قد يتذكرونه جيدًا، فديلما روسيف نفسها اعتقلت وعذبت لمعارضتها النظام العسكري الذي استحوذ على السلطة بالقوة في 1964. ربما لهذا شبح الانقلاب في ذاكرتها لا يزال حقيقيًا.

ليس انقلابًا.. ولكن إجراءات قانونية

تنفي بعض الملابسات احتمال أن يكون التحرك ضد روسيف انقلابًا، فالانقلابات عادة ما تأتي بغتة، بينما ما يحدث في البرازيل فيه نوع من الفتور والخضوع لإجراءات أقرها الدستور. علاوة على أن الجيش لم يتدخل على الإطلاق أو يستخدم القوة. فضلًا عن أن التصويت لإقالة روسيف يبدو أنه لاقى قبولًا لدى العديد من البرازيليين الذين يرغبون في عزلها، ليس بسبب الاتهامات الموجهة إليها، لكن لتسببها في انتكاس الاقتصاد، وفشلها في مواجهة الفساد داخل حزبها والحكومة.

أما على الجانب الآخر، يورد المقال هناك من يعارضون كل ما يوجه لروسيف من اتهامات، يذكر بعضهم أن حتى التلاعب في الحسابات الحكومية هو أمر تورط فيه غيرها من السياسيين ولم يستدع ذلك عزلهم. كما أن حوالي 60% من أعضاء البرلمان نفسه يواجهون قضايا فساد مالي ورشاوى وغسيل أموال واحتيال انتخابي. ولعل أبرز المشرعين المعارضين لروسيف المتحدث باسم مجلس الشيوخ هو نفسه متورط في فضيحة فساد مالي يبلغ عدة مليارات دولار، ومتورط فيها أيضًا شركة «بيترو براس» للبترول. حتى إن المؤيدين لها الذين لا يرونه انقلابًا، يقولون إن تلك هي محاولات خلق غطاء على قضايا فسادهم السياسي والمالي وتشتيت مسار التحقيقات في ثرواتهم.

وحسب رأي بعض المؤيدين لروسيف التي ينقلها المقال، تبدو الملابسات الواقعة الآن شبيهة بتلك في انقلاب 1964. روسيف زعيمة اليسار ولها شعبية كبيرة بين الطبقات الفقيرة والعاملة، بينما هناك اليمين صاحب الشعبية الكبيرة بين طبقات رجال الأعمال والطبقات المتوسطة والعليا. وفي ظل اقتصاد يعاني من جراء تلك الاضطرابات وتصاعد التوتر بين الشرائح المجتمعية، وتأجيج الإعلام للاستقطاب والصراع بينها، فما الذي تغير؟ يبدو أن المتآمرين العسكريين خلعوا عنهم الملابس العسكرية واستبدلوا بها أخرى مدنية، كما استبدلوا بالدستور دباباتهم القديمة.

معضلات الديمقراطيات الشكلية

يقول الكاتب أن تلك تحديدًا هي الديمقراطية الشكلية والتي تعتبر إحدى أهم مشكلات البرازيل باعتبارها دولة حديثة العهد بالديمقراطية. وينقل عن «هيكتور بيرلا جونيور» في مقال على «واشنطن بوست» عبارة عامة لتوصيف الوضع في البرازيل، ألا وهي «انقلاب ناعم». وأضاف أن أحزاب اليمين سعت طوال سنوات لتشويه اليسار في السلطة، مثلما حدث في بوروجواي مع الرئيس «فيرناندو لوغوب» في 2012، واتهامه بـ«التقصير» في مهامه الرئاسية على خلفية صدامٍ بين قوات الشرطة وبعض المزارعين الذين لا يملكون أراضيَ.

بالتأكيد انقلابات القرن الحادي والعشرين اختلفت عن سابقاتها حيث التدخل العسكري المباشر. وعليه يقترح الكاتب محو مصطلح انقلاب تمامًا وخاصة في خضم تلك الإضرابات والتمزقات المؤلمة للديمقراطية. حيث يرى أن اتهام النائب العام لروسيف بالتلاعب المالي في حسابات الحكومة ومطالبته المحكمة بالتحقيق معها، يتسق مع توجه بعض المحلفين الذين ربما يصدرون الحكم على المتهم ليس بالاعتماد على أدلة فقط، إنما لأنهم يعتقدون أنها شخص «فاسد». وحسب ما ذكرته «إيمي إيريكا سميث» – خبيرة سياسية – أن أيًّا من ذلك لا يؤسس لانقلاب إنما يظهر فقط إساءة لاستخدام الأدوات الديمقراطية.

البرازيل

يرى الكاتب أن تسمية الأمور بحقيقتها أفضل لإنتاج معالجة أفضل. تسمية المشكلة بأنها ديمقراطية شكلية هشة قد ينتج معالجة أفضل للمشكلة. فحينها يمكن للمعنيين بالترشح المطالبة بضمانات أقوى إذا ما واجه الرئيس مثل تلك الاتهامات، أو توجيه القصور في النظام الرئاسي أو البرلماني، كما يمكنه الدفع في اتجاه عدم اللجوء للتصويت لسحب الثقة من رئيس الوزراء في حال وجود تضارب بين السلطة التنفيذية والتشريعية، فلا تترك البلاد دون قيادة وتزيد مخاطر العنف السياسي.

يقول «جون بولغا» – عالم سياسي – أن الاتهام بالتلاعب والتقصير يساوي التصويت بسحب الثقة من النظام الرئاسي والذي يعد صمام أمان يهرب بالديمقراطية من السقوط؛ فيسمح للرئيس بالسقوط وللديمقراطية بالتعافي، ويبقى الجيش في ثكناته، أو بعبارة أخرى ينحني النظام لكن لا ينكسر. فهل تسمح ديلما روسيف للنظام بالانحناء أم تدعه ينكسر.

حدوث انقلاب بالتأكيد ستكون له تبعاته الاقتصادية، ولعل أبرزها ما قد تصدره المنظمات الدولية وأهمها «ميركوسور»؛ اتحاد تجاري اقتصادي لدول أمريكا الجنوبية، من قوانين بحق الدول استنادًا لمدى تطبيقها الديمقراطية. يذكر أن روسيف هددت بإمكانية ضغطها على «ميركوسور» لتعليق عضوية البرازيل لعدم التزام البرازيل بفقرة «الديمقراطية» التي يقرها التحالف.

ويختتم الكاتب مقالته بأن ما يحدث في البرازيل ربما ليس بانقلاب، ولا يرجع ذلك لأن الأوضاع في البرازيل مستقرة؛ إنما لأن توصيف انقلاب لا ينطبق على التداعيات الواقعة في جمهورية البرازيل الاتحادية.