على سطح الأمور، تبدو هذه الخطوة كلفتة إنسانية من دولتين يُفترض بهما أن تكونا شريكتان في إنهاء الحرب الأهلية الدامية في سوريا، ولكن في جوهر الأمر، تسلّط هذه الخطوة الضوء، مرة أخرى، على نفاق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريا وغيرها من الدول؛ فالأسد مازال على رأس السلطة اليوم معولًا إلى حد كبير على المساعدات العسكرية الروسية، ومن الصعب أن نقتنع بأن بوتين، الرجل الذي يوهم نفسه بأنه قادر دومًا على الوصول لمراده، غير قادر على إقناع الأسد بالسماح بوصول المساعدات إلى المدن إذا اختار محاولة ذلك.

في الوقت الذي فيه أطلق الوعود أمام وزير الخارجية جون كيري بأنه سيعمل مع أمريكا لإنهاء الحرب التي أزهقت أرواح حوالي 470,000 شخصًا، لم يستطع بوتين، أو لم يرغب، بإيقاف حملة قصف الأسد ضد المدنيين، وذلك بالتزامن مع تواصل الضربات الجوية الروسية ضمن سوريا أيضًا، وفقًا للتقارير الورادة.

يبدو الوضع السوري أكثر كآبة اليوم بعد انهيار اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت الذي أحيا الآمال إلى حد كبير في إيجاد الطريق لسلام دائم في البلاد، كما انهارت المحادثات بين حكومة الأسد وقوات المعارضة، وتبدو خطط البدء في 1 أغسطس بعملية تحول سياسي عن طريق التفاوض لتشكيل حكومة أكثر شمولية بعيدة المنال بشكل متزايد.

سوريا ليست سوى إحدى الساحات التي أسفر ضمنها هوس بوتين بإعادة مجد روسيا على تغذية عدم الاستقرار، وإيقاظ الشكوك السياسية والعداوات التي تلاشت بعيد انهيار الاتحاد السوفييتي؛ فبعد عام من غزوها لأوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، وقعت روسيا اتفاقًا في مينسك كان من المفترض أن يُنهي القتال، ولكنها خرقت ذاك الاتفاق اليوم، حيث بلغ العنف بين الأوكرانيين والقوات الانفصالية المدعومة من روسيا أعلى مستوياته منذ وقف إطلاق النار في عام 2015.

بالإضافة إلى ذلك، تنخرط روسيا أيضًا بسلوك عدواني وخطير في الجو وفي أعالي البحار؛ ففي الأسبوع الماضي، اعترضت مقاتلات بريطانية ثلاث طائرات نقل عسكرية روسية اقتربت من دول البلطيق، وفي 29 أبريل، اقتربت طائرة حربية روسية لمسافة تقل عن 100 قدم من طائرة أمريكية مقاتلة فوق بحر البلطيق، وقامت بحركة التفاف كاملة فوق الطائرة، في مخاطرة كان يمكن أن تسفر عن نتائج كارثية، وقبل أسبوعين، أجرت طائرتان حربيتان روسيتان 11مرورًا “يحاكي حركات الهجوم” بالقرب من مدمرة أمريكية في بحر البلطيق.

تخاطر هذه التحركات بإشعال مواجهة مباشرة ما بين روسيا والولايات المتحدة؛ فحتى الآن، مارست القوات العسكرية الأمريكية ضبط النفس على طول الطريق، ولكن القرارات التي تُقدّر فيما إذا كانت الطائرات القادمة تشكل تهديدًا من عدمه تُتخذ في لحظة واحدة، ولا يمكننا أن نفترض دائمًا بأن الولايات المتحدة ستبقى تمارس سياسة ضبط النفس.

أسفر القلق المطّرد حول روسيا بين أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أوروبا الشرقية عن قيام التحالف بوضع خطط لنشر أربع كتائب قتالية مؤلفة من حوالي 1000 جندي في كل من بولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، حيث ستشارك الولايات المتحدة بكتيبتين وألمانيا بكتيبة وأخرى من بريطانيا، وعلى الرغم من أن هذه القوة لن تكون كافية لصد أي عدوان روسي مُتصور، إلا أن حلف شمال الأطلسي يأمل بأن تعمل تلك القوة على ردع موسكو من عبور حدود التحالف، وفضلًا عما تقدم، يستكمل حلف الناتو أيضًا جهوده في بناء نظام دفاع صاروخي أوروبي يهدف للحماية ضد الصواريخ الإيرانية؛ ففي الأسبوع الماضي، تم تشغيل قاعدة في رومانيا، ووضع الأسس لتشكيل قاعدة أخرى في بولندا، ناهيك عن تخطيط الحلف لمناورات عسكرية أكبر ضمن جدول أعماله.

لطالما أساء بوتين فهم حلف شمال الأطلسي معتبرًا إياه خطرًا وتهديدًا داهمًا، رغم أن الحلف افتقد للنزعة العسكرية بشكل كبير بعيد الحرب الباردة، ولكن سلوك بوتين الحازم قد يعمل على تحويل التحالف إلى ذاك التحالف النشط الذي يخشاه بالضبط؛ أي إلى تحالف يحمل مساعٍ أكثر جدية لانتهاج مسار الإنفاق العسكري رغم مشاكل النمو الاقتصادي، اللاجئين السوريين، والاختلالات السياسية.

في النهاية، يمكن اعتبار اجتماع أعضاء حلف الناتو الـ28 في يوليو القادم في وارسو فرصة مواتية لإعادة التأكيد على عزم وقوة الحلف، كما أنه وفي يونيو القادم، ستنتهي فعالية العقوبات التي فُرضت على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، حيث يجب على أعضاء الحلف تجديد العقوبات إذا أرادوا لها أن تبقى سارية، رغم أنه سيكون من الحكمة الاحتفاظ بقنوات الحوار مفتوحة مع روسيا كذلك، ويبقى لنا أن نقول أخيرًا بأن حظوظ بوتين في استعادة المكانة الدولية التي يلتمسها كانت لتكون أكبر لو عمل على تنويع اقتصاد بلاده وعلى تأسيس علاقات بناءة مع الغرب.