المعارضة السورية: مفاوضات بلا أفق وتحديات الانسداد السياسي


 

في أوائل العام 2016، وعلى وقع استمرار الضربات الروسية لمواقع المعارضة المسلحة وتمكن قوات النظام وحلفائها من استعادة المواقع التي سبق أن خسرتها في جبال اللاذقية وتقدمها في ريف حلب وفي محافظة درعا وتشديدها الطوق على جيوب المعارضة في ريف حمص وتأمينها خطوط إمدادها على المحاور الرئيسية في المناطق التي تسيطر عليها، وعلى وقع تقدم ميليشيا "وحدات الحماية" الكردية مدعومة بالطيران الأميركي تارة والروسي تارة أُخرى وتوسع رقعة سيطرتها شمالًا على حساب تنظيم "الدولة الإسلامية" وعلى حساب المعارضة السورية، دعا دي مستورا إلى جولة مفاوضات جديدة في جنيف. 

انعقدت الجولة ابتداءً من أواخر يناير/كانون الثاني 2016، ولم يرافقها تقدم نتيجة استمرار حصار النظام لمناطق عدَّة في البلاد وعدم توقف غاراته والغارات الروسية على أكثر من منطقة، وتمنُّعه عن الإفراج عن معتقلين كانت الوساطات الأممية قد وعدت به؛ والأهم نتيجة رفض وفد النظام البحث في أية صيغة "انتقالية" واعتباره بشار الأسد "خطًّا أحمر" وإصراره على حكومة "مصالحة وطنية" وليس مجلس "حكم انتقالي". 

وفي فبراير/شباط، قرَّر الروس والأميركيون في ميونيخ الإعلان عن دخول وقف النار حيز التنفيذ بناءً على مرجعية القرار الأممي 2254 وما سبقه من قرارات، مُستثنين بالتالي مناطق انتشار "تنظيم الدولة الإسلامية" و"النصرة". أتاح تراجع القصف والاشتباكات عودةَ التظاهرات المطالِبة بالحرية وبإسقاط الأسد.

ظهر جليًّا خلال أشهر فبراير/شباط ومارس/آذار وإبريل/نيسان أن مسؤولي النظام ومن خلفهم المسؤولون في موسكو وطهران (التي أقرَّت للمرة الأولى بإرسال وحدات من جيشها النظامي إلى سوريا) يراهنون على مبدأ التشدد في جميع الملفات السياسية والمُصنَّفة "إنسانية" عشية كل تفاوض أو تواصل، ثم يعمدون إلى إظهار "حسن نوايا" إنسانية عبر السماح للأمم المتحدة بتمرير قافلة مساعدات إلى واحدة من المناطق التي يحاصرون. هكذا تحولت ممارسات الحصار والتجويع إلى مبدأ مساومة مؤقتة تُوظَّف ضمن استراتيجية الإخضاع البطيء والمُميت لبعض المناطق الثائرة، والقبول بين الحين والآخر بطلبات أممية تُخفف لأيام وقع الحصار ولا تغير في أية حال من نتائجه على المديين المتوسط والبعيد. وكذلك في ريف دمشق. 

في شهر مايو/أيار 2016، بدا أن الانسداد السياسي يحول دون دعوةٍ أممية جديدة للتفاوض. كما أن الاتصالات الروسية-الأميركية لم تُفضِ إلى أكثر من تعويم لوقف إطلاق النار، وتأجيلٍ لانهياره التام بعد المجازر التي وقعت في حلب وداريا والعديد من بلدات محافظات حلب وإدلب وحماه وحمص، وبعد أكثر من تطور عسكري واشتباكات في أرجاء البلاد.

في تحول آخر، شهد شهر مايو/أيار أيضًا تصعيدًا في القتال داخل مدينة دير الزور وحول مطارها بين قوات النظام ومقاتلي تنظيم "الدولة" دون تغير كبير في خريطة انتشار كل طرف. أمَّا في محيط عين عيسى شمال مدينة الرقة، فقد أعلنت قوات "سوريا الديمقراطية" وعمادها المقاتلون الأكراد بدء هجومها مدعومةً من الطيران الأميركي على مواقع "تنظيم الدولة" في محاولة لطرده من المنطقة. أخيرًا، شهد شهر مايو/أيار تفجيرات استهدفت المدنيين في طرطوس وجبلة على الساحل السوري، وأوقعت لأول مرة عشرات الضحايا، وأعلن "تنظيم الدولة" مسؤوليته عنها. 

الانسداد السياسي والتحديات المقبلة 

يظهر من مجمل التطورات الميدانية داخل سوريا ومن الاتصالات الدولية الأخيرة بشأنها أن لا حلَّ سياسيًّا في المستقبل القريب. فواشنطن تبدو أقرب إلى فكرة ترحيل البت بالحلول والخيارات إلى العام المقبل حين تدخل إدارة جديدة إلى البيت الأبيض. وروسيا وإيران تريدان استمرار عمليات الخنق للمناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة بما يمكنهما من القول لاحقًا: إنه لا مناطق سورية واسعة وذات تواصل ترابي باقية خارج سلطة نظام الأسد سوى تلك التي يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية" من جهة، و"جبهة النصرة" من جهة ثانية (إضافة طبعًا إلى المناطق التي تسيطر عليها "وحدات الحماية" الكردية). وهذا يعني أن المطالبة برحيل الأسد لم تعد محمولة من قوى وازنة عسكريًّا ومقبولة دوليًّا ومسيطرة على مساحات واسعة من الأرض السورية. 

أمَّا أوروبا فما زالت مواقفها من الأسد متأرجحة بين الحزم الفرنسي والتردد "الاتحادي"، وهي ليست في أية حال في موقع مرجِّح أو حاسم. في نفس الوقت، لم يرشح عن العواصم الإقليمية الثلاث الأكثر دعمًا للمعارضة السورية وتشددًا تجاه الأسد، تركيا والسعودية وقطر، ما يدل على احتمالات تخطيها للسقف الموضوع أميركيًّا إن لجهة تسليح بعض فصائل المعارضة بما يسمح لها بمواجهة قوات النظام وحلفائه، أو لجهة السماح بتحريك جبهة الجنوب المجمدة منذ أواسط العام الفائت ومدها بالعتاد والتجهيز اللازمَين، أو حتى لجهة التدخل المباشر ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في الشمال السوري وفرض مناطق آمنة خلال هذا التدخل بما يحمي المدنيين السوريين وقوى المعارضة من قصف النظام وروسيا.

وهذا يعني أن أنقرة والرياض والدوحة أمام خيارات محدودة إن لم تقرر بلورة سياسة "هجومية" في سوريا تحول دون نجاح موسكو وطهران في دحر قوى المعارضة وجعل الأسد بالقوة شريكًا في أي حلٍّ سياسي. وهي بالتالي مطالَبة باتخاذ مبادرات تبدأ بالضغط لوقف كل تقاتل بين فصائل المعارضة المدعومة من قِبلها (في الغوطة الشرقية مثلًا)، وتمر بدعم فرق الجيش الحر والفصائل المعارضة المقاتلة ضمن أجندة وطنية سورية إن في الجنوب أو في الشمال، وتنتهي بتأمين غطاء سياسي (وعسكري) لهذه الفرق والألوية بما يمكِّنها من تعزيز قواها ومنع النظام من أي تقدم جديد، وفرض نفسها طرفًا هو الأقدر على الانتشار في ريف حلب الشمالي الشرقي وفي ريف الرقة (حيث تنظيم الدولة) التي يُرجح أن تُستهدف بعمليات عسكرية متصاعدة. 

في هذا الوقت، يمكن للمعارضة السورية بجسمها الأوسع تمثيلًا، أي الهيئة العليا للمفاوضات، وببعض أجسامها الأُخرى، أن تعتمد خطابًا سياسيًّا مقرونًا بحملة إعلامية وبتقديم دراسات قانونية ثمة الكثير من الكفاءات السورية القادرة على وضعها. وقوام الخطاب هذا وحملته الإعلامية ربطُ الاستعداد للمصالحة الوطنية وتحويل الإجماع الوطني السوري التأسيسي الجديد إلى مشروع مواجهة لـ"تنظيم الدولة الإسلامية" شرط رحيل الأسد. فمن دون رحيله، بعد 46 عامًا من استيلاء عائلته على الحكم، ورحيل الحلقة العائلية الضيقة للنظام المحيطة به والمسؤولة معه عمَّا حلَّ بسوريا في السنوات الخمس الأخيرة من قتل وتعذيب وتهجير وتدمير، لا يمكن البحث بأي عملية اجتثاث للإرهاب ولا يمكن التسليم بأي حل في سوريا.