كيف تأقلمت أحياء إزمير التركية مع اللاجئين السوريين؟


إزمير هي ثالث أكبر مدينة في تركيا، وتستضيف عددًا كبيرًا من اللاجئين السوريين البالغ عددهم حوالي 2.7 مليون شخصًا يعيشون حاليًا في مختلف أنحاء تركيا.

لطالما عُرفت إزمير باستضافتها للاجئين من مختلف الجنسيات؛ فخلال تسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي كانت المدينة وجهة هامة بشكل خاص بالنسبة للعراقيين والأفغان، ومنذ بدء الحرب في سوريا في ربيع عام 2011، ازداد عدد قاطنيها من السوريين بشكل كبير.

في الوقت الذي قدم فيه العديد من السوريين لإزمير للاستقرار، إلا أن المدينة كانت تعد أيضًا نقطة توقف طبيعية في طريق اللاجئين إلى اليونان، حيث لا تزيد المسافة المتوجب قطعها للوصول إلى هناك عن 8 كم عبر بحر إيجه، وخلال صيف وخريف عام 2015، أصبحت إزمير أحد أكثر نقاط العبور أهمية لأولئك الذين يأملون في الوصول إلى أوروبا عبر الجزر اليونانية، مما جذب أكثر من 850,000 شخصًا للوصول إليها، شكّل السوريون نصفهم تقريبًا.

في هذا السياق، بزغت منطقة باسماني في إزمير لتستقطب انتباه العالم باعتبارها واحدة من نقاط العبور الرئيسية للباحثين عن الحماية ونوعية الحياة الأفضل، حيث شكّلت تلك المنطقة مكانًا لاجتماع الراغبين بالوصول إلى أوروبا مع المهربين الذين يعرضون عليهم رحلة في زورق مطاطي مكتظ بالأشخاص، تلك الرحلة التي توفر لهم –على أقل تقدير- بعض الأمل في مستقبل أفضل.

شدّت صور المحلات التجارية في باسماني، التي كانت تبيع مئات سترات النجاة البرتقالية، خيال الجمهور، حيث قدّمت الفنادق الجديدة، المنازل الخشبية، المقاهي والمحلات التجارية الجديدة، خدمات تشتد إليها الحاجة للاجئين السوريين أثناء انتظارهم لعبور البحر إلى أوروبا.

ولكن الأشهر الأخيرة شهدت تغيّر كل شيء، بعد أن أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقًا مع تركيا يهدف لوقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا؛ فمقابل استقبال اللاجئين الذين تتم إعادتهم من اليونان، وُعدت تركيا بمبلغ 6.8 مليار دولار ومجموعة أخرى من التنازلات السياسية.

بشكل عام، كان اتفاق الاتحاد الأوروبي مع تركيا، والذي استقطب انتقادات واسعة من قِبل المجتمع الدولي، ناجحًا إلى حد كبير في تحقيق مآربه، فتحت خطر احتمال تعرضهم للاحتجاز في أحد مراكز اللجوء الجديدة في أوروبا وترحيلهم إلى تركيا، أو خطر احتجازهم في اليونان بعد إغلاق الحدود مع مقدونيا، أجرى الكثير من الأشخاص الذين كانوا ينتظرون في إزمير للعبور إلى أوروبا تغييرات جذرية على خططهم.

انحسار طفرة سوق العمل

خلال فصل الخريف من عام 2015، وعندما كنا نجري تحقيقًا صحفيًا حول خبرات وآمال وتطلعات السوريين الذين يعيشون في أزمير، كان مسجد باسماني نقطة التقاء لمئات الأشخاص الذين ينظرون المهربين، التجار، أو الدعم اليومي من المجتمع المحلي والمنظمات غير الحكومية، ولكن عندما زرناها مؤخرًا، تفاجأنا بأنها أضحت منطقة شبه مهجورة.

عندما سألنا سائق سيارة أجرة يجلس أمام المسجد عن سبب إقفار المنطقة المكتظة سابقًا، أجابنا: “لقد تم إغلاق الحدود، لذا لم يعد هنالك سبب يحذو باللاجئين للانتظار هنا بعد الآن، إنهم يقيمون في فنادق رخيصة في الحي، أو انتقلوا للاستقرار في شقق مستأجرة”.

لم يبق إلا حفنة صغيرة من الأعمال التي ظهرت وازدهرت سابقًا لتلبية مطالب اللاجئين؛ فبعد أن كانت تلك المحال تستولي على أفق المشهد في الحي منذ بضعة أشهر فقط؛ لم نر اليوم إلا متجرًا واحدًا فقط يعرض سترة نجاة في واجهة المحل، وعندما سألنا صاحب المتجر عن سبب وجود هذه السلعة، أجابنا بسرعة بأن سترات النجاة ليست للبيع للاجئين، وإنما للسياح الذين يخططون للقيام برحلة بحرية على متن سفينة سياحية تركية.

في الشوارع الخلفية، لاحظنا وجود سترات نجاة أخرى معلقة خارج إحدى المحال، وبعد سؤالنا لصاحب المحل عنها، أجابنا بحزن واضح بأن هذه السترات معروضة للبيع منذ أسبوعين، ولكن لا أحد أضحى يهتم بشرائها بعد الآن، فسوق المبيعات كان يشهد بشكل مؤكد لحظة انحسار هائلة.

بيع سترات النجاة والقوارب المطاطية ليست سوى جزء من قصة الاقتصاد غير الرسمي الذي بزغ في باسماني استجابة لوصول أعداد كبيرة من اللاجئين؛ فالمقاهي والمتاجر ومحلات البقالة التي ظهرت لتلبية الطلب المتزايد أضحت اليوم خاوية على عروشها، والسوريون الذين كانوا محرك السوق في باسماني، انتقلوا إلى أجزاء أخرى من المدينة للعيش والعمل في قطاع المنسوجات أو غيره لتوفير قوت اليوم مهما كان هزيلًا.

العثور على مستقر

ولكن الأمور ليست كما تبدو عليه؛ فبعد أن انعطفنا وسرنا على طول الشارع الموازي، دخلنا في عالم آخر مختلف تمامًا؛ إنه حي يعج بالسوريين والمحلات التجارية، محلات البقالة، المطاعم، ومحال الحلاقة، جميعها تحمل لافتات باللغتين التركية والعربية، حيث لاحظنا وجود عمال سوريين داخل مطعمين يقدمان الطعام السوري.

استطعنا التحدث مع مجموعة صغيرة من الرجال السوريين خارج متجر بقالة صغير يبيع خليطًا من المواد الغذائية السورية والتركية والغربية، وأثناء احتسائنا لكوب من القهوة السورية الداكنة، أخبرنا مالك المحل بأنه يعيش في تركيا منذ خمس سنوات، وخلال هذه الفترة استطاع توفير ما يكفي من المال لشراء المحل.

لم نستطع أن نتمالك أنفسنا من سؤاله عن سبب عدم توجهه إلى أوروبا عبر بحر إيجه مع الآخرين، وحينها أجابنا: “الذهاب إلى أوروبا يعني تعلم لغة جديدة، الاندماج بثقافة جديدة، وبدء عمل تجاري أو عمل جديد، وهذا يعني إنفاق سنتين على الأقل في محاولة الاندماج، ولكن هنا، يمكننا أن نعمل ونستمر بحياتنا بسهولة، فهناك العديد من السوريين في هذا الحي”، وتابع: “نحن مضطرون لرعاية أسرنا ولهذا يجب علينا العمل، وهذا الأمر أسهل بالنسبة لنا في تركيا، نحن نعيش بحالة جيدة هنا”.

أخبرنا صاحب المحل بأن العديد من البضائع المستوردة تأتي من غازي عنتاب وكيليس بالقرب من الحدود التركية مع سوريا، أما الخبز السوري الذي يُباع في المتجر، فيتم إنتاجه من قِبل مخبز في الحي أنشأه لاجئون سوريون آخرون.

بعد بضع دقائق، دعانا مختار المحلة إلى مكتبه الواقع على بعد خطوات قليلة من المتجر السوري، وعرض علينا أوراق تسجيل حوالي 80 سوريًا يعيشون في الشارع الذي يسكن فيه، جنبًا إلى جنب مع نسخ من بطاقات الهوية والحماية المؤقتة.

بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، لم تعد منطقة باسماني مجرد محطة توقف يزورونها ليغادروها نحو أوروبا، بل أضحت اليوم منزلًا لهم، حيث أخبرنا المختار بأن معظم السوريين المستقرين في الحي يعملون في المصانع التي تنتج المنسوجات ذات الجودة المنخفضة.

وبسؤالنا عن العلاقة بين المجتمع المحلي والسوريين الوافدين حديثًا، أكّد المختار بأن الجميع على توافق تام، وأضاف قائلًا: “يجب علينا أن نتعايش سويًا، إنهم مستقرون هنا، وليس لدينا خيارات أخرى سوى التواصل، في البداية، كان هنالك بعض التوترات ما بين الشباب، ولكننا جميعًا أصبحنا مقربين من بعضنا البعض، حتى أنا قمت بتأجير بيتي لأسرة سورية، ونحن نحبهم حقًا”، علمًا بأن ما ذكره المختار يتوافق مع دراسة حديثة حول مواقف الأتراك تجاه السوريين الذين يعيشون في المدينة.

أخيرًا، من الواضح بأن قصة باسماني لم تنته بعد؛ فالمدينة قد لا تكون اليوم مزدحمة باللاجئين الذين يتطلعون لعبور بحر إيجه باتجاه اليونان، ولكن تأثير أحدث موجة للهجرة انعكس بشكل واضح ضمن الحي، ولا يمكن لأحد أن ينكره بتاتًا، ومع توارد الأخبار إلى شوارع باسماني حول احتمالية انهيار صفقة الاتحاد الأوروبي وتركيا، يبدو من المؤكد تقريبًا بأن الحي سيبدأ في إعادة إعداد نفسه لما سيكشفه المستقبل، مثلما كان عليه الأمر دائمًا.