ماجد كيالي يكتب: تداعيات الاتفاق الأميركي الروسي في سوريا


ماجد كيالي

قبل الحديث عن الاتفاق الأميركي الروسي الأخير بشأن وقف إطلاق النار في سوريا يجدر لفت الانتباه إلى التوضيحات الآتية:

– أولا، بدا هذا الاتفاق كأنه بين الدولتين الكبريين، إذ عقد بمعزل عن الأطراف الأخرى المتصارعة، ولاسيما السورية، سواء على جبهة النظام أو جبهة المعارضة؛ ما يوحي بأن البلد يخضع لنظام وصاية دولي، كأن الأطراف المعنيون عليهم التنفيذ فقط.

– ثانيا، هذا اتفاق سري تصر الإدارة الأميركية دون أي توضيح، على رفض الإفصاح عن مضامينه حتى لأقرب حلفائها، وهو يتألف من خمس وثائق، لذا لا أحد يعرف إذا كان يتضمن بنودا تتعلق بالحل الانتقالي، ولا ماهية علاقة وقف إطلاق النار بالحل السياسي المنشود، علما أن الطرف الروسي نفى أي صلة لهذا الاتفاق بوضعية الرئيس أو بالحل الانتقالي.

– ثالثا، الاتفاق في شقه المعلن، أي المتعلق بوقف القتال والفصل بين المتحاربين، لم يحمل أي ضمانة لتنفيذه، ومثلا فهو لم يوجد هيئة رقابة حيادية أو أممية لرصد الخروقات وتحديد المسؤوليات؛ وهذا أحد أهم أوجه قصوره.

– رابعا، لم يحدد الاتفاق الجماعات الإرهابية، باستثناء “داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية) و”جبهة فتح الشام” (النصرة سابقا)، ولا كيفية فك الارتباط بينها وبين جماعات المعارضة المسلحة المعتدلة، وفوقها فهو لم يتطرق إلى وضعية الميلشيات العراقية واللبنانية والأفغانية والإيرانية التي تقاتل إلى جانب النظام.

– خامسا، يشمل الاتفاق ثلاثة أمور رئيسة، وهي وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الغذائية إلى المناطق المحاصرة، ومحاربة الإرهاب (“داعش” وجبهة فتح الشام أي “النصرة” سابقا، وأخواتهما).

الطريق إلى وقف النار
معلوم أن هذا ليس الاتفاق الأول ولا الوحيد من نوعه إذ تم التوصل مرارا إلى اتفاقات كهذه، ضمنها اتفاق شهر فبراير/شباط من هذا العام بعد لقاءات فيينا، وقبل الشروع بمفاوضات جنيف3، لكنه لم يصمد، وثمة أيضا العديد من الاتفاقات المحلية التي تحصل بين النظام بإشراف الطرف الإيراني أو الروسي من جهة وجماعات المعارضة المسلحة من جهة أخرى. على ذلك فإن أهمية الاتفاق المذكور أنه يعقد بعد العديد من التطورات المهمة التي غيرت من معادلات الصراع ومكانة القوى المتصارعة في سوريا، والتي يكمن أهمها في الآتي:

– أولا، انحسار مكانة إيران في سوريا بالقياس لوضعها السابق، مقابل بروز روسيا كمفاوض باسم النظام، وكصاحبة القرار في ما يخص الصراع الجاري على مستقبل سوريا. ومعلوم أن إيران كانت تتصرف وكأنها من تملك التقرير في الشأن السوري، ضمن الحلف الذي يضمها مع روسيا والنظام، خصوصا بالنظر إلى وجودها العسكري على الأرض، مع المليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية التي تتبع لها.

وقد حصل هذا التغيير بعد دخول روسيا على الصراع المباشر، منذ أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، إذ أن هذا الأمر، سيما مع الغارات الوحشية التي شنها الطيران الروسي على مواقع المعارضة وبعض المدن السورية هي التي عززت موقف النظام ومكنته من الصمود بعد التراجعات التي أحاقت به.

– ثانيا، حصول نوع من إعادة التموضع في سياسة تركيا خاصة في إعادة علاقاتها مع روسيا إلى طبيعتها (مع استعادة علاقاتها مع إسرائيل)، ودخولها على خط الصراع العسكري المباشر في سوريا، في ما سمته عملية “درع الفرات” (أواخر أغسطس/آب)، في مواجهة “داعش”، وفي مواجهة “قوات سوريا الديمقراطية” المحسوبة على حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي تعتبره بمثابة امتداد لحزب العمال الكردستاني التركي، الأمر الذي غير معادلات الصراع في سوريا، وغير معها خارطة تموضع القوى العسكرية المتصارعة.

– ثالثا، جاء الاتفاق مع بداية انحسار وجود “داعش” من الأراضي السورية نتيجة ضربات التحالف الدولي، والدخول التركي إلى الأراضي السورية، والمواجهات التي خاضتها “قوات سوريا الديمقراطية ضده.

– رابعا، حاجة روسيا إلى إستراتيجية للخروج من الورطة التي وجدت نفسها فيها غير قادرة على الاستثمار في الصراع السوري إلى الدرجة المناسبة. هكذا فبعد عام كامل من القصف الوحشي مازالت المعارضة السورية قوية وقادرة على تحقيق مكاسب، كما حصل في معركة حلب واحتلال الراموسة قبل أسابيع (استعادها النظام مؤخرا بمعونة القصف الروسي).

ومن ناحية أخرى فإن روسيا لم تستطع تحقيق مكاسب سياسية مهمة تجعل الولايات المتحدة تخفف الضغط عنها في ملفات أخرى، مثل أوكرانيا، ونشر الدرع الصاروخي في محيطها، ورفع العقوبات التكنولوجية المفروضة عليها، ووضع حد لانخفاض أسعار النفط الذي أثر عليها كثيرا. لذا فمن هذه الناحية فقد كان الانفتاح الروسي على تركيا وتفهم سياساتها في سوريا حاجة روسية، مثلما كان حاجة تركية، ويأتي في إطار البحث عن مخارج أو عن تحميل الأعباء على آخرين، وهذا ما يفسر إلحاح روسيا على الولايات المتحدة مشاركتها العبء العسكري في سوريا.

– خامسا، من جهة الولايات المتحدة فقد كانت بحاجة إلى اتفاق كهذا أيضا، سيما أن إدارة أوباما في أواخر عهدها وتريد أن تذهب مع إنجاز ما في المسألة السورية، بعد كل اللوم الذي ألقي عليها سيما من أوروبا وحتى من نخب أميركية. ومعلوم أن هذا التحول، بعد كل التلكؤ واللامبالاة السابقين، حصل بعد أن أنهكت كل الأطراف وبعد الكارثة التي أودت بعمران مدن سوريا وتشريد الملايين وتفكيك البني المجتمعية في هذا البلد (كما في العراق)، الأمر الذي يفيد بضمان أمن إسرائيل لعقود.

مع ذلك فإن هذا لا يستنتج منه أن الإدارة الأميركية حسمت أمرها بشأن وضع حد للصراع السوري، وإنما تتصرف بحدود الحفاظ على معادلة لا خاسر ولا رابح، لا منتصر ولا مهزوم، لا النظام ولا المعارضة. والواقع فإن الولايات المتحدة في ذلك لا تبدو في عجلة من أمرها إذ لا شيء يثقل عليها في سوريا، وهي لا تخسر شيئا لا جنديا ولا فلسا واحدا.

تقاطعات وتعارضات
هناك عدة استنتاجات يمكن استخلاصها من كل ذلك، ضمنها: أولا، أن هذا ليس اتفاقا إستراتيجيا له صفة الديمومة أو الشمولية أو النهائية وإنما هو مجرد اتفاق جزئي ومؤقت وناقص، ما يفيد أن الولايات المتحدة لم تحسم أمرها بعد، وأنها تتوخى تقطيع الوقت والحفاظ على خطوط الاشتباك لا أكثر؛ بانتظار إدارة أميركية أخرى ربما.

– ثانيا، هذا يعني أن الولايات المتحدة مازالت عند نهجها المتعلق بالحفاظ على معادلة لا غالب ولا مغلوب في سوريا، أي سياسة إدامة الصراع، واستنزاف القوى والأطراف المتصارعة المحلية والإقليمية، وهو ما يزيد من عذابات السوريين.

– ثالثا، هذا اتفاق لا صلة له لا بعملية سياسية ولا بمصير الأسد، لكنه في حال ثباته قد يفتح على لعبة تفاوضية بدورها لن تقود إلى شيء جدي إذا لم يحصل تغير في موقف الولايات المتحدة، التي تبدو غير مستعجلة، سيما أنها لا تخسر ولا تدفع شيئا بالقياس لروسيا التي تبدو بحاجة إلى إستراتيجية خروج أو سلم نزول، بعد أن حققت ما تريد بحسب اعتقادها.

– رابعا، من مصلحة السوريين استثمار الاتفاق في هذه الظروف، رغم أنه مجحف وظالم وناقص، بما يتعلق بوقف القصف الجوي والبناء عليه في إخراج الميلشيات الأجنبية، ووقف التشريد ومحاولات التغيير الديمغرافي والتخفيف عن المناطق المحاصرة.

– خامسا، بهذا الصدد قد يفيد الإدراك أن ثمة فارق هائل في القدرة والقوة بين الولايات المتحدة وروسيا في التجاذبات الحاصلة بينهما في سوريا، إذ الأولى لا تخسر وهي غير متورطة في الصراع العسكري المباشر، وهي تستخدم بعضا من قوتها “الناعمة” فقط ربما إلى حين تشعر بأن اللحظة قد حانت وأن روسيا استنزفت تماما، سيما بعد دخول تركيا على خط المعادلة مباشرة، مع نجاحها في التقليص من قوة “داعش” وأخوات “القاعدة”، وعلى ضوء التنسيق الحاصل بين الطرفين الأميركي والتركي، وهو تنسيق مرشح للتزايد، والاستثمار السياسي.

معارضة محرجة
عموما فقد وضع الاتفاق المعارضة السورية (السياسية والعسكرية) في موقف حرج، فهو غير واضح وغير معلن، وهي أعربت في نقدها له عن تبرمها من عدم مشاورتها في بنوده، وعدم اطلاعها على نصه، ومن طريقة التعامل التي تضمنت فقط إرسال قائمة تعليمات (من قبل المبعوث الأميركي مايكل راتني).

وبديهي أن المعارضة أبدت انتقادها للاتفاق الذي لم يلحظ وضع ضمانات ولا طريقة لمراقبة وقف إطلاق النار، كما تشككت بمحاولة روسيا فرض تعميم صفة الإرهاب على فصائل مقاتلة للنظام، لإضعاف قوى المعارضة العسكرية، كما انتقادها لعدم وجود صلة سياسية بين وقف إطلاق النار وبين تطبيق الحل السياسي وفقا لإعلان جنيف 2012 وقرار مجلس الأمن 2254.

مع ذلك فقد بدا واضحا أن المعارضة محرجة بقبولها الاتفاق، إذ هي لا تملك إمكانية رفضه، فضلا عن أن بإمكانها اعتباره فرصة لالتقاط الأنفاس، والتخفيف من معاناة السوريين الذين يعانون من القصف المدمر، ومن الحصار.

هكذا فإن ما حصل يفيد أن الولايات المتحدة وروسيا هما من يقرر الأوضاع على الأرض؛ ما يفيد -أيضا- بأن الحسم باتجاه ديمومة الصراع، أو باتجاه وضع حد له، بهذا الشكل أو ذاك، بات بيد الخارج، مع الأخذ بالاعتبار فارق القوة والمكانة بين الطرفين (بهذا الصدد يمكن مراجعة مادتي في الجزيرة نت: “تموضع روسي أميركي جديد في الصراع السوري”، تموز 2016)؛ هذا أولا.

– ثانيا، أن الطرفين المتصارعين (النظام والمعارضة) لا يملكان سوى الخضوع للإملاءات الخارجية؛ لتعذر إمكان تغلب أحدهما على الآخر، ما يفسر قبول المعارضة التحول من هدف إسقاط النظام إلى القبول بمجرد رحيل الأسد وحسب مع “الملطخة أيديهم بالدماء”.

– ثالثا، الاتفاق يفيد أن ثمة انزياحا واضحا في التعاطي مع القضية السورية، من كونها قضية سياسية، وتتعلق بتحقيق مطالب السوريين بالحرية والكرامة والديمقراطية، إلى كونها قضية إنسانية، ومكافحة إرهاب؛ وهاتان القضيتان هما ما يهم الأطراف الخارجية، حتى الآن، أكثر من القضية الداخلية.

– رابعا، هذا يفيد أن الثورة السورية دخلت في مرحلة استعصاء فلا هي قادرة على الاستمرار بوصفها ثورة ولا هي قادرة على التوقف، وكأنها استنفذت أغراضها، وهذا الوضع الإشكالي مع التصارع المسلح، يفتح المجال أمام تغير أهداف الثورة وقبول المعارضة بإقامة سلطة حكم انتقالي بالشراكة مع أطراف من النظام؛ كما ورد في رؤيتها لمرحلة الحل الانتقالي.

– خامسا، ما ينبغي ملاحظته أن نجاح هذا الاتفاق كليا أو جزئيا، سيعتمد على مدى حسم الإدارة الأميركية لموقفها، وتاليا على أوراق الضغط التي ستعتمدها لإلزام روسيا والنظام بالاتفاق. وبديهي أن ذلك سيعتمد -أيضا- على السياسة التي ستنتهجها روسيا، ومدى تخوفها من تفاقم الوضع وانعكاساته السلبية عليها، من الجوانب المختلفة.

– سادسا، بغض النظر عن نواقص وإجحافات والتباسات الاتفاق المذكور، فإن المعارضة تقف إزاء خيارين: استمرار الوضع الحالي من القصف والقتل والتدمير والتشريد، أو القبول بوقف القتال والهدنة.

والمعنى أن الخيار الثاني هو الأقرب لمصالح السوريين، وتخفيف عذاباتهم، والأقرب لصالح المعارضة، التي يُفترض أن يغدو ضمن مسؤوليتها البناء على هذا الموقف والاستثمار فيه، أولا، لجهة مراجعة مسارها، وترتيب بناها، وتوضيح خطاباتها. وثانيا؛ لتمكين السوريين من التقاط الأنفاس والتخفيف من عذاباتهم، ووقف موجات التدمير والقتل والحصار والتشريد والتهجير. وثالثا؛ لتحقيق نقلة نحو المفاوضات، بالتعويض عن ضعف الإمكانات الذاتية، بقوة إسناد الدول الصديقة لموقف المعارضة، ولو بالمعنى النسبي.

السؤال الأساسي الآن، ومع كل هذه التجاذبات الأميركية الروسية من حوله: هل ينجح هذا الاتفاق؟ أو هل حسمت الإدارة الأميركية موقفها بشأن إيجاد حل للصراع السوري، أم أنها مازالت عند نهجها بشأن استمرار الاستثمار في هذا الصراع لاستنزاف القوى الأخرى، وتسهيل تطويع المنطقة لإملاءاتها، وضمنه إيجاد بيئة آمنة لإسرائيل؟

المصدر: الجزيرة

ماجد كيالي يكتب: تداعيات الاتفاق الأميركي الروسي في سوريا على ميكروسيريا.
ميكروسيريا -

أخبار سوريا ميكرو سيريا