أربع محاور هجوم … والهدف إخراج سكان “حلب”


كل العمليات الجوية والضربات المدفعية وقصف صواريخ أرض-أرض التي تتساقط على أحياء مدينة حلب المحررة والتي تستخدمها ميليشيات النظام وحلفائه تأتي في إطار التمهيد الناري الذي يسبق عملية الهجوم الأرضي من أجل إتمام السيطرة على المدينة، باعتبار أن قواعد العمل العسكري وخبرات الحروب السابقة تقول أن الطيران يٌدمر ويقتل لكنه لا يحسم المعركة، بل من الضروري أن تكون هناك عمليات عسكرية ترسخ عملية السيطرة على المكان، ولنا تجارب عبر التاريخ، وأهمها معارك العراق الأخيرة حيث أن التمهيد الجوي وضربات صواريخ الـ”كروز” الأمريكية والتي استمرت ما يزيد عن أربعين يوماً، لم تٌفلح بزعزعة صفوف الجيش العراقي لولا العملية البرية التي اجتاحت العراق وأعقبت التمهيد.

في هذا الإطار هناك قناعة مطلقة من قبل الروس بأن العمليات الأرضية والمعارك البرية ضد الثوار لن تكون مجدية في تغيير موازين القوى على جبهات حلب الخارجية في الأرياف أو الداخلية في الأحياء، وتلك القناعة تستند إلى معطيات وخبرات سابقة بأن ميليشيات الأسد والميليشيات الإيرانية وحزب الله وكل الميليشيات الطائفية لا تملك إرادة القتال، وأن شعارات “حماية المراقد” أو “لن تٌسبى زينب مرتين” و”يا علي” لم تعد صالحة لدى قادتهم في “قم” و”الضاحية الجنوبية” و”كربلاء”، ولم تعد تٌؤمن الزخم من الروح المعنوية المطلوبة للقتال بعد أن اقتنع مقاتلوهم أنهم جزء من قوة عسكرية تقاتل لصالح أهداف روسية وأمريكية بعيدة عن أي من الأهداف التي حاولوا أن يزرعوها في عقولهم. والأمر الآخر وهي نقطة قوة لدى مقاتلي الجيش الحر وفصائل الثورة، بأن قتالهم يأتي في إطار التكليف الشرعي والواجب الوطني في الدفاع عن مدنيين يتعرضون للموت والقتل من قبل قوات غازية محتلة، وهو ما يعطيهم إرادة القتال الأقوى وتصميم المواجهة الأمضى في المواجهة التي تجري فصولها داخل المدن والجبهات السورية. والنقطة الأهم التي توصل إليها الروس وغرفة قيادتهم في قاعدة “حميميم” هي أن كل المناطق التي استعادها النظام كانت بفضل الضربات التدميرية للطيران الروسي، وأن غياب هذا الطيران عن سماء أي منطقة ولساعات محدودة يمكن أن يؤدي إلى استعادتها من قبل الجيش الحر.

على مدى ثلاثة أشهر فائتة، لم تغرب “غربان” الأسد وبوتين عن سماء حلب، ولم يغب القصف الجوي والمدفعي والصاروخي عن أحيائها وريفها المحرر، ولكن كان طريق إمداد “الكاستيللو” يشكل الرئة التي تتنفس منها المدينة عسكرياً ومدنياً وطبياً. وبعد أن قامت الميليشيات الإيرانية مدعومة بعناصر من حزب الله وبتغطية جوية من “روسيا” بالسيطرة على هذا الطريق، تغيرت طريقة التعاطي مع الوضع الميداني، وفرض ذلك صعوبة بالغة في أسلوب قيادة المعركة، وعملية البحث عن البديل وفتح الثغرة الجنوبية الذي لم يدم طويلاً وعكس مدى الإرادة الروسية في الحصول على مدينة “حلب” كاملة.

الأسبوعين الماضيين برزت للواجهة مأساة “حلب” مرة أخرى، وتكشفت معها كل الأوراق الدولية، وبان عجزها عن إيقاف آلة القتل التي تعصف بأكثر من (350) ألف مواطن حلبي مدني يعيشون في الجزء الشرقي المحرر من المدينة، والذين كانوا على موعد مع الموت عبر استخدام الطيران الروسي والأسدي لكل أنواع الذخائر والأسلحة بما فيها المحرمة دولياً من قنابل عنقودية وفوسفورية وارتجاجية وحارقة، والتي أحالت منازلهم وشوارعهم إلى كتلة جحيم تتقاذفها شاشات الفضائيات، وجل ما قدمه المجتمع الدولي (الحر) هو بيانات استنكار واستهجان مع تصريحات إدانة لا تعوض عن رغيف خبز يحتاجه جائع، ولا تبرر أن تصل الحالة الطبية لبتر أطراف المدنيين نظراً لعجز الأطباء عن إنقاذ حالات ما كانت تحتاج لبتر.

أكثر من (23) حيّا حلبيا محررا أصبحت في عداد المناطق غير الصالحة للسكن، وأكثر ممن قتلتهم الطائرات الروسية والأسدية ما زالوا تحت الأنقاض نظراً لتعذر رفع الأبنية المدمرة بعد أن استهدفت ضربات الطيران كل البنية التحتية ومراكز الدفاع المدني والمشافي وحتى محطات المياه ودور العبادة. المعهد السوري للعدالة والمساءلة وثق نتائج الاحتلال الروسي على مدار عام وذكر نتائج قد تٌشكل ثلث الحقيقة فقط نظراً لاعتماد المعهد على درجات عالية من تأكيد التوثيق والشهادات والأدلة. فقد قال المعهد أن روسيا أطلقت على المناطق المحررة (9721) صاروخ جو-أرض، و(19) صاروخ جوال أرض-أرض من نوع كاليبر أٌطلقت من البوارج الحرية وقواعد برية من روسيا، و(113) حاضن قنابل عنقودية، و(309) قنابل فوسفورية، أدت إلى تدمير أحياء بالكامل وقتل وجرح آلاف السوريين، إضافة إلى تدمير معظم المشافي والمدارس والأسواق الشعبية ومراكز الخدمات والطرق العامة ومراكز الدفاع المدني.

أمام هذا القتل والتدمير وأمام إخراج كل مرافق الحياة داخل أحياء “حلب” المحررة عن العمل ومع حملة جوية بربرية، تحاول الآن عصابات “الأسد” مدعومة بمليشيات طائفية من إيران والضاحية الجنوبية والعراق، وكثير من البلدان والتي زادت من أعدادها مؤخراً كحركة “النجباء” العراقية و”حزب الله” وعناصر “الحرس الثوري” الإيراني، ويحاول كل هؤلاء الآن التقدم وتشديد الحصار على مدينة حلب، وعبر أربعة محاور:

المحور الأول: من الشمال وينطلق من مناطق تحشدهم في “مخيم حندرات” و”الشقيف” (التي تم السيطرة عليها مؤخراً) وأطراف مزارع الملاح ومشفى “الكندي”، وغايتهم الوصول إلى أحياء حلب الشمالية والسيطرة على بعض المواقع، وأهمها دوار “الجندول” وأحياء “الهلك” و”سليمان الحلبي” و”الشيخ خضر” وأطراف حي “هنانو”. ويعمل على هذا المحور لواء “القدس الفلسطيني” وبعض الميليشيات “الإيرانية”، إضافة إلى مساندة من قبل ميليشيات “كوردية” تتبع لـ”صالح مسلم” وتتحرك من حي “الشيخ مقصود” و”السكن الشبابي”.

المحور الثاني: من الشرق عبر مطار “النيرب” وغايته المشاغلة وتثبيت بعض الفصائل ومنعها من تعزيز قدرات بقية الجبهات. وتعمل عليها ميليشيات إيرانية ومن حزب الله، إضافة إلى عصابات “الأسد”، وتسانده كتيبة مدفعية روسية متحركة تتموضع في مطار “كويرس” شرقاً وتتحرك نحو مطار “النيرب” عند الحاجة.

المحور الثالث: محور “المدينة” من الغرب عبر حي “المشارقة” باتجاه حي “بستان القصر”، والاختراق بقلب المدينة، وتعمل عليه ميليشيات “الأسد” تساندها ميليشيات من “حزب الله”.

المحور الرابع: المحور الجنوبي عبر جبهة “الراموسة” والمشروع “1070”، والغاية منه إبعاد الفصائل عن الأحياء المحاصرة ومنعها من عودة الكرة بفك الحصار كما فعلت بداية الشهر الماضي، وتعمل عليه ميليشيات عراقية كحركة “النجباء” و”أبو الفضل عباس” وفيلق “بدر”، مع ميليشيات “حزب الله” و”الحرس الثوري” الإيراني وكتيبة مدفعية “روسية” تتموضع في “جبل عزان”.

المحاور الأربعة تحظى بدعم وتغطية جوية مكثفة من الطيران الروسي إضافة إلى طائرات وحوامات “الأسد”.

الغاية التي تطلبها روسيا ومعها إيران من خلال تلك العملية العسكرية الجوية والأرضية ليست إخراج المقاتلين كما صدر مؤخراً من دعوات، بل الغاية الأكبر هي خروج المدنيين، فهم يريدون مدينة حلب فارغة من السكان لقناعة الروس الأولى أن جرائمهم التي ارتكبوها أصبحت كثيرة ولا يمكن إضافة جرائم جديدة إليها، خصوصاً إذا ما دخلت ميليشيات شيعية إلى الداخل والمعروفة بشرهها للدم والقتل الطائفي. والأمر الآخر أنه لا طاقة ولا قدرة للأسد وحلفائه على رصد آلاف الجنود ضمن حواجز داخل “المدينة” لضبط الأمن إذا ما تمت السيطرة على الأحياء الثائرة.

بكل الأحوال، الواقع غير التمني، وما يطلبه “بوتين” و”خامنئي” و”الأسد” لا يرقى إلى قدرات الثوار والفصائل التي تقاتل وتدافع عن أهلها وشعبها وأرضها، وكل الرسائل التي ردت على مطالب إخلاء حلب عسكرياً أو مدنياً كانت واضحة وبلحمة شعبية بين المقاتلين وحاضنتهم وأن الثورة التي انطلقوا بها سلمياً واستكملوها عسكرياً لها أحد أمرين إما أن ينجح الجميع بالوصول لأهداف الثورة أو الموت والاستشهاد دونها، لكن لن يخلوا بيوتهم لتستقر بها عائلات الميليشيات الشيعية مهما كلف الأمر من تضحيات.

المجتمع الدولي أو ما سمى مجازاً “العالم الحر”، يبدو أنه أٌصيب بداء الطرش والعمى، أو أنه يعتبر الشعب السوري لا ينتمي للبشرية، فالولايات المتحدة الأمريكية تتلقى صفعات متتالية من الدب “الروسي” وكل ما تقوم به الدبلوماسية الأمريكية على يد قائدها الوزير “كيري”، هي أن تدير الخد تلوى الخد للكف القادم من “موسكو” دون أي حركة ودون أي فاعلية ودون أي إجراء يحفظ ماء الوجه الأمريكي أولاً وينقذ الشعب السوري ثانياً، رغم امتلاكها للكثير من الخيارات بدءاً بقصف مواقع النظام التي تقتل الشعب السوري وانتهاءً بدعم فصائل المعارضة بمقومات الدفاع عن النفس، وبأضعف الإيمان رفع “الفيتو” عن أصدقاء الشعب السوري لإمداده بما يريد.

الثورة مستمرة، وأهل حلب ومقاتلوها متمسكون بأرضهم كما هي قلعتهم، ومن يظن أن وحشية الدول تستطيع أن تخمد ثورة شعب فهو واهم، فالسلاح يمكن أن يقتل ويدمر لكنه لا يمكن أن ينتصر على الإرادة والتصميم والإيمان والتضحية التي يتحلى بها الشعب السوري الحر، ولا يمكن لآلة القتل الروسية والإيرانية أن تُثني إرادة الثوار عن هدفهم بالإطاحة بنظام الإجرام وتقديم “الأسد” و”بوتين” لمحاكم “لاهاي”.

 

 

 

 


صدى الشام