شاشات مصرية تضبط إيقاع الوطن والمواطنين


ملايين المشاهدين المصريين عادوا أدراجهم إلى شاشات الفضائيات المصرية على مدى السنوات الست الماضية، بعد هجرة موقتة إلى قنوات غير مصرية، بعضها عربي وبعضها الآخر غربي لاستقاء حقيقة الموقف واستقراء طبيعة الأمور والتكهن بما ستؤول إليه حياتهم في المستقبلين القريب والبعيد. لكن رياح الربيع أعادت المشاهد المصري إلى الشاشات المحلية التي تكاثرت وأثبتت بالحجة والبرهان، والصورة والحوار أنها الأكثر قدرة على نقل الصورة والتعبير عن المزاج العام مع تحسس المزاج الخاص وضبط الإيقاع كلما كانت هناك حاجة لذلك.

ويبدو أن الحاجة إلى ضبط الإيقاع هذه الفترة باتت ماسة، والرغبة في العلاج النفسي للقاعدة العريضة من المشاهدين أصبحت هدفاً حيوياً. والمتابع للكم الهائل من الشاشات الفضائية المصرية، لا سيما الخاصة، يمكنه بسهولة أن يحدد عدداً من المعالم الواضحة، ومجموعة من الظواهر المتفرقة التي تظهر جلية عبر محتواها الإعلامي الحالي.

وحالياً تتكرر عبارات مثل «الشعب هو السيد» و «الشعب يأمر» و «لأن المشاهد هو الأهم» و «أنتم من نخدم عبر هذا الاستوديو» و «ذكاؤكم الفطري لم يعد يترك مجالاً لأحد ليكذب عليكم» و «وعيكم الوطني المحترم هو الذي يرسم مسار الوطن والرئيس والحكومة وهذا الاستوديو». هذه العبارات التي تتكرر مئات المرات بكلمات مختلفة وجمل متباينة وأساليب مغايرة تعمل على تسريب هذا الشعور بالثقة والسيادة والسيطرة والهيمنة، بل وأحياناً الفوقية والعنجهية.

المذيع الشهير الذي يسهب في مقدمات برنامجه الليلي اليومي بجمل وعبارات تدور في فلك «حضرتك تقعد على كرسي وتضع رجلاً على رجل وتخبرنا بمشكلاتك واحتياجاتك»، «سيادتك مواطن. عارف يعني إيه مواطن؟ يعني صاحب بلد، يعني صاحب حق، يعني كلنا موظفين عندك»، وغيرها يقوم كل ليلة بما يشبه جلسات العلاج النفسي. هذا الشعور الذي تسرب إلى ملايين المشاهدين على مدى السنوات الست الماضية بالإنهاك يحتاج إلى علاج.

علاج

ملايين المشاهدين الذين يعانون معاناة شديدة في حياتهم اليومية، باعتبارهم مواطنين مصريين، يلجأون يومياً إلى شاشات التلفزيون لجوءاً يتراوح في أغراضه بين الترفيه والاطلاع ومتابعة الأحداث، وهي العوامل المنصوص عليها في كتب ومراجع الإعلام المرئي. لكن هذه العوامل باتت تأتي إلى المشاهد وهي مغلفة بأغلفة علاجية، تتراوح بين المسكنات والمهدئات والعقاقير التي تعمل على إعادة زرع الثقة وبث الطمأنينة وعلاج النفس المكسورة والإرادة المهزومة والأكتاف المثقلة بمشكلات تشابكت فيها تراكمات عقود من الإهمال، وسنوات من الفوضى، وأحداث لا حصر لها من التناحر على السلطة ومواجهة ما يخص البلاد من مخطط الشرق الأوسط الجديد وحرب اقتصادية شعواء وقصور في الحلول وقصور ثورية بنيت على الرمال.

 

شاشات ونواب

هذه الحالة المعقدة ذات المشاعر المتشابكة والتي تخلو من توجهات حكومية مُرضية وتفتقد إلى مصارحات ومكاشفات بحقيقة الأوضاع استوجبت من الشاشات بزوغ مدرسة تلفزيونية جديدة تقوم على العلاج النفسي للمشاهد. ولأن المعالجين النفسيين ينتهجون مناهج شتى، ويعتنقون مفاهيم مختلفة، فقد ظهر من يصيح فيهم مستنهضاً الهمم ومستنفراً الذمم. ومنهم من يسير على نهج «تفاءلوا بالخير تجدوه». وبينهم من يستلهم من كوارث الماضي دروساً وعبر لمواجهة مصائب الحاضر، أو يقترض من كتب التاريخ ما يناسب مواقف الحاضر، حيث سبق أن تغلب الشعب على الهزيمة وقهر المواقف الأليمة وحقق انتصارات وفتوحات وإنجازات يمكن تكرارها واستحضارها. وهناك من يعتمد على الخير وأهله لبث الأمل، فيخصص برنامجه لجمع التبرعات من هؤلاء وإعطائها لأولئك، أو عرض مشكلات أولئك حتى يحلها هؤلاء، أو الدمج بين هؤلاء وأولئك في فقرة للدلالة على أن مصر تقف على قلب وكلمة وموقف رجل واحد. وتظل الغلبة العددية للبرامج والفقرات المخصصة لحل المشكلات والعقبات والأزمات ما ظهر منها بصفة فجائية وما يعد منها تحت بند المزمنة أو المتوارثة أو المؤجلة.

وقد ظن بعضهم أو اعتقد أو لعله تمنى أن ينتهي هذا الدور لبرامج التلفزيون، أو يتقلص، بعد انتخاب البرلمان، ووجود نواب عن الشعب كل يمثل دائرته، ويعد صوتها تحت القبة ولسانها أمام الحكومة وعقلها لشرح الأبعاد وسواعدها لتفعيل الحلول وتنفيذ الإنجازات. لكن هذه البرامج لم تختف، أو يقل عددها، أو يخفت صوتها، بل العكس هو الصحيح. فقد بزغت وتألقت، وزاد عددها، ومنها ما خرج إلى النور لهذا الغرض فقط.

بعضهم يرى في البرامج الخدمية المخصصة لتوصيل صرخة سكان شارع أو قرية أو مدينة حيث تحلل لبنية تحتية، أو حاجة لشبكة صرف صحي، أو غياب لمدرسة، أو إهمال في صرف مستحقات التموين، أو فساد في صرف المعاشات، أو خطورة الطرق، أو انعدام المواصلات العامة، وغيرها حضوراً إيجابياً مطلوباً ومرغوباً. آخرون يرون فيها توغلاً لدور الشاشات. وفريق ثالث يعتبرها إخفاقاً للبرلمان. ورابع يتعامل معها كبرهان على وهن الحكومة وغيابها.

وبصرف النظر عن الآراء والمواقف، تبقى الحقيقة واحدة والشاشات واضحة في ما تقوم به وتقدمه، سواء على الصعيد النفسي العلاجي أو من باب تقديم خلطة سحرية تمزج بين أدوار البرلمان والحكومة المفتقدة.

بعضهم غضب أو انزعج أو شعر بعدم ارتياح حين انعقدت جلسة لمناقشة الإعلام ضمن فاعليات المؤتمر الوطني الأول للشباب في شرم الشيخ قبل أيام، وذلك لأن عنوان الجلسة اختار فعل «صناعة» لتحديد دور وسائل الإعلام في الرأي العام. لكن الحجة تشير إلى أنها صناعة، والبرهان يؤكد أنها ممكنة، ولو إلى حين.



صدى الشام