الكتابة ضدّ العنف والحرب نصوص لثلاث كاتبات شابات من سورية وفلسطين واليمن

19 ديسمبر، 2016

أوس يعقوب

مثل كثيرين غيري أستطيع أن أفهم “الكتابة” بوصفها وسيلة للخلاص وشهادة على العصر، وأن أتفق -كذلك- مع الرأي القائل: إن “الثورة تحدث في الأدب قبل الواقع، وأن للأدب دورًا مهمًا في دفع الشعوب إلى إدراك ذاتها”، لكن على الرغم من ذلك، أراني مدفوعًا بتوجيه أسئلة مدججة مقاتلة وشرسة، لثلاث كاتبات عربيات من جيل الشباب، من سورية النازفة وفلسطين المغتصبة واليمن الذي سُرقت السعادة من أبنائه؛ فما عاد “سعيدًا”. أسئلة عن جدوى الكتابة في آتون الحروب القذرة التي تدور ببلادهنّ وحولهنّ؟ وكيف يمكن للكتّابة –كتابتهنّ- أن تغير هذا الواقع العربي الكارثي المؤلم، الذي تدفع فيه الفتيات والنسوة أثمانًا باهظةً تشريدًا واعتقالًا وتنكيلا ًويتمًا وثكلًا وترمّلًا وشهادةً، وهنّ في مواجهة مفتوحة ومستمرة مع موجات العنف المتنوعة والمتعددة المشارب في أوطاننا، المشوبة -منذ عقود- بطغيان الاستبداد أو الظلامية أو كليهما معًا.! أوطاننا التي تعاني اليوم الأمرين من جراء صراع “الأخوة” و”الهويات” الدامي والمدمر الذي يحدث في منطقتنا العربية عامة، فاقمته فاشية “الغزاة الجدد” الذين استجلبهم الطغاة لقتلنا في عقر دارنا، وحشية وفجاجة؛ علاوة -بطبيعة الحال- على المواجهة اليومية المفتوحة مع العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة التي تهبُّ منها هذه الأيام نسائم ميلاد الانتفاضة الثالثة؛ انتفاضة الحرية والكرامة.

القاصة السورية زينة الحموي، والشاعرة الفلسطينية أسماءعزايزة، والروائية اليمنية سمية طه، سجلنَ بحبر الروح شهادتهنّ عن “الكتّابة في اللحظة الراهنة، لحظة الدم”، فكان هذا البوح…

زينة حموي: (قاصة من سورية)

مكبّر الأصوات الخافت

لا اكتمالَ في مسيرتها مهما فعلتْ، فحتى قبل ولادتها تكون الرغبةَ الثانية. تعيشُ طفولتها تحت عصا اللاءات: “لا تلعبي مع الصبيان، لا تضحكي بصوتٍ عالٍ، لا تجلسي كالرجال، لا تخرجي دون رقيب”.

تجدُ -دائمًا- من يقودها أو يختار عنها. فالقوّامون عليها كثر؛ أهلٌ وأقرباءٌ ومعارفُ ومتطوعون. يُعِدّون كلَّ شيء في حياتها مُسبقًا: هيئتها وملابسها، مفردات كلامها، المجالات المباحة لدراستها وعملها، المضمار المسموح به لأفكارها وأحلامها، الأشخاص المأمونين لعلاقاتها مقابل أولئك المحظورين.

تشبُّ تحت سقف الممنوع. فإما أن تدفن نداءات الجسد وطموحات العقل، أو تعيش معها حياةً موازية سريّة. وفي هذه الحال سيلازمها الخوف من انكشاف حياتها الثانية؛ حتى آخر لحظة من عمرها. ففي حالتها كامرأة لا تَسامحَ مع أخطائها وهفواتها، لا نسيانَ ولا غفران.

هي المثاليةُ المرضيُّ عنها متى لبستْ ثوب الأم أو الزوجة المطيعة أو الأرملة العجوز. وهي المُتَّهمة السّهلة المشكوكُ بها متى كانت حبيبةً أو عازبة أو مطلَّقة.

هي العاملة المُجِدّة التي تنال احترام “البعض” إذا كانت مُدرِّسة أو ممرّضة أو موظفة في مهنة عادية. وهي التافهة الزائدة عن الحاجة إن اختارتْ أن تكون مغنيّة أو نحّاتة أو كاتبة.

هي الناقصة دينًا وعُرْفًا وقانونًا؛ فلا اعترافَ بأهليّتها وقدراتها مهما اجتهدتْ، ولا عدالةَ في نصيبها إن وَرِثتْ، ولا جنسيةَ لأبنائها متى أنجبتْ.

هي الضحية الجميلة التي تستحقُّ الرحمة؛ متى أرداها الرصاص شهيدة، وهي المتمرّدة المُنفلتة عندما تخرجُ في مظاهرة فتعتلي الأكتاف أو تصرخ بصوت مسموع.

هي اللاجئة الغارقة التي تثير بموتها تعاطف العالم ونواحه؛ طالما أنها ماتت نقيَّةً طاهرة لم تمسَسْها أيدي الرجال ولو كانوا رجال الإنقاذ!!

هي في بلدي تلك الفتاة الصغيرة العالقة بين أنقاض الدمار والتي صرختْ في وجه منتشليها: “عمّو لا تصورني ماني متحجبة” !! فصفّق لها العالم المهووس بأفكاره الدميمة عن الجسد والروح والخلاص.

لماذا نكتب؟ نكتبُ من أجل هذه الطفلة في مواجهة من علّموها أن حجابها أهمّ من حياتها فقتلوها بشكل أو بآخر. نكتبُ كي نكون سيّداتٍ لا “سبايا”، في زمنٍ كنّا قد اعتقدنا أن هذه الكلمة ستقتصر على الشِّعر وكتب التاريخ، فإذا بالحرب تعيدها إلينا كحقيقة واقعة بكل ما فيها من إجرامٍ ووحشيّةٍ وبشاعة. نكتبُ كي لا نكرّر جميعًا السيرة النمطية للمرأة الخاضعة، التي أعدّها لنا المتسلّطون على الفكر والمتجبّرون في الدين والسياسة. نكتبُ لأنّ الكتابة هي مكبّر الصوت للاستغاثات الخافتة. هي العصا التي نشيرُ بها إلى مواضع العطب والتسوّس في صور حياتنا. وهي أداتنا الأعنف في الشكوى والمُطالَبة والاعتراض والإلحاح.

نكتبُ في زمن الحرب حيث تزيد الواجبات وتتضاعف المسؤوليات. وكما يجدر بالطبيب أن يعالج وبالقاضي أن يُنصِف وبالتاجر أن يعدل، يجدرُ بالكاتب الكتابة.

نكتبُ كلّنا، نساءً ورجالًا، حالمين بعصرٍ قادم يتساءلُ فيه أبناؤنا عن معنى كلمة: “ختان” أو “جرائم الشرف” فيعودون إلى ما كتبنا باحثين عن قضايا بدّدتْ مآسيها المواجهة بالكتابة.

نكتبُ الآن لزمنٍ آتٍ، زمنٍ أكثر حريّة ونورًا ورحابة.

أسماء عزايزة: (شاعرة من فلسطين)

لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب

تشغلني الحرب. لكنّي أخجل من الكتابة عنها. أجلد استعاراتي ثمّ أسترحمها. يقودني الألم نحو وصف رصاصةٍ، فأتراجع نحو وصف صفعةٍ عاطفيّة. أبقر بطن الكلام فيستفيق ضحايا الهاراكيري، جميعهم، ويبقرون بطني.

لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب، لأني أتحدث عن الدم وأنا أشرب القهوة، وعن القبور وأنا أقطف الصفّير في مرج بن عامر، وعن القتلة وأنا أمعن في قهقهة الأصدقاء، وعن مسرحٍ محروقٍ في حلب وأنا أقف الآن أمامكم في هذا المسرح المكيّف.

لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب، لأني كلما قصفتُ شوارع المدينة في القصيدة، اضطجع الإسفلت ومالت عليه المصابيح ومرّ الأنبياء بسلام.

كّلما خلتُ جلد أبي مسلوخًا فيها، ألمسه سليمًا في العناق. وكلّما سمعت نواح أمي، هدهدتني بأغنيةٍ قديمةٍ وغفيت كملاك.

لكنّ الأحلام صكوكٌ مفتوحةٌ

توقّعها امرأةٌ حورانيّةٌ لا أعرف ملمحًا واحدًا فيها، سوى أنّي حين تخطئ سكيني ورقة الخسّ، أشمّ رائحة قبيلة الدم التي تركها جدّي في جسدينا.

الأحلام صكٌ مفتوح، يوقّعه أبناء قاسيون الذين همسوا لفظها في أذني في نصف غفوةٍ، ولم أتأكد من أين نبت اسم الجبل إلا حين بحثت عنه في جوجل.

الصّك الأوّل:

في حشدٍ شديد الغموض، يمسني وضوحٌ فاجرٌ.

وسط هندسةٍ متقنةٍ لضوضاء الجغرافيا، تعبرني، بهدوءٍ، رصاصةٌ عند أسفل الظهر، يزداد غموض الحشد، يُحكم إغلاق نوافذ الأذن من الداخل. الثقب طازجٌ كنبع ماء، الدمّ حارٌ كصوت أمي في الأغنية، ناعمٌ كجلد أبي.

الصّك الثاني:

حوصرت في أكثر بقع العالم قداسةً.. انهال عليّ رصاصٌ كما انهالت كلمات الرّب على الأنبياء..

قبضت على حجرٍ فسال من يدي. سبقت الجنود فسبقني الزمن. وحيثما غفا المسيح -قبل أن يكبر ويحملنا على ظهره- انكمشت كقطّةٍ خائفة.

الصّك الثالث:

خوف في الشام.

لا تصدّقوني حين أحدّثكم عن الحرب

لأني لم أسمع طلقةً في حياتي سوى تلك التي رماها أبي من جفته في عنق يمام مرج بن عامر. ولم أشمّ دمًا من جرحٍ إلا ذاك الذي شممته مع أمي حين حضتُ لأوّل مرة.

ليس لديّ رصيدٌ في بنك الحرب، لكنّ حورانيّةً طمأنتني بأن صكوكي صالحة.

 

سمية طه: (روائية من اليمن)

عن القتلة والوجوه التي اختفت وأخوات الوجع

 

خلدي الوجع الذي عشته كي لا ينسى القتلة والجلادون والمجتمع!

أُكتبي حتى تعرف النساء أنهنّ لا يعانينّ وحدهنّ، وأنهنّ أخوات الوجع!

دائمًا وأبدًا كانت الوجوه تختفي، كان الرجال يختفون في السجون وموتى فتختفي وجوه النساء ذبولًا حتى الموت. ثم زارتنا الحرب فاختفى مزيد من الوجوه، وبعدها عدنا للحياة لتختفي وجوه أخرى. في الحرب مات الرجال في الثكنات والمعسكرات وماتت النساء والأطفال في البيوت. وبعد الحرب كبرنا واختفت وجوه زميلات دراستنا من مقاعد الدراسة، كن قرابين التقاليد القذرة الظالمة لينجبن مزيدًا من الوجوه، وتحديدًا الوجوه الباهتة التي ستجعلهنّ يختفينّ خلف أسمائها.

زارتنا الحرب ثانية، وطالت إقامتها. وما بين الحرب والحرب اختفت وجوه أخرى كثيرة -غدرًا وقسرًا- وقتها كنا نعي وندرك بعمقٍ وجع فراغ اختفاء مزيد من الوجوه.

إمتلأت صفحات الأخبار بالاختطافات والإخفاءات القسرية، ثم الإنفجارات والاغتيالات ومزيد من الموت، وبعدها جاءت الحروب الداخلية الصغيرة -هنا وهناك- وأخفت الحقائق وحياة كثيرين، وهُجّرت قرىً وجماعاتٍ من مواطنها.

وكل هذا تضاف مصائبه إلى مصائب النساء في اليمن منذ الأزل، فهن محروماتٍ من التعليم، ومن الميراث، ومن المساواة والعدالة، ومن الاسم والحب وأي شيءٍ قد يجعل منها إنسانًا. وتختفي وجوههنّ دائمًا خلف ظلال رجالهنّ وبراقعهنّ وجهلهنّ وظلم مجتمعهنّ، وحقوقهنّ خلف ظلماتٍ ثلاث. ودائما أقول للمرأة حولي: “اكتبي، كي لا تموتي مرتين، اكتبي ويلات الحرب، قسوة المجتمع، خيانة الرجال، عثرات الحياة وكل تجاربها”، فإذا –نحن النساء- لم نكتب تفاصيل وجوه الغدر والخيانة والقسوة والحب والعنف والموت والحزن والفجيعة، لاندست بيننا بهدوء وتكاثرت.

طالت الحرب الأخيرة، ومحت وجوهنا التي عرفنا إنعكاسها على المرايا. غيرت وجوه الناس والأماكن التي عرفناها. وخلفت أقنعة من الخوف والألم والموت والدمار. والحرب للكاتب أشبه بتجربة نزع قشرة الجلد بالأظافر، وارتداء جلد جديد أقسى مرارًا وتكرارًا؛ لأن الكتابة عن الحرب يعني أن تعيشها، وأن تعيد شريط جَلدِها لروحك على ذاكرتك، في كل فقرةٍ تكتبها وكل جملةٍ تصوغها. وعلى الرغم من كل هذا فإن عشرة كتّابٍ أو مئة غير كافين -البتة- لتدوين بشاعة حربٍ تجاوزت العام وطالت كل مكان، فصرت أطالب مزيدًا من النساء بالكتابة، فالحرب أخذت بيوتهنّ وأحبتهنّ وأمنهنّ ومستقبل أطفالهنّ ولم تعطهنّ شيئًا “اكتبن المدارس التي أغلقت والوظائف التي فقدت والجامعات التي تعطلت، اكتبن تدهور الوضع الصحي والإقتصادي، وإنعدام أساسيات الحياة مثل الغذاء والماء والكهرباء والدواء” لكن أصعب ما في الأمر أن أكثرهن معاناة لا يستطعن أن يصغن ثلاث جملٍ مرتبة ليكتبنها عن معاناتهنّ، فكيف بحكاية وجع وأحداث! والأسوأ من ذلك أن بعضهنّ لا يعرفن من القراءة والكتابة غير أرقام الهاتف العشرة.

فيروز وآمنة وكاتبة وفاطمة وتونس وخديجة وسنبلة وزينب و…، جميع النساء اللواتي عرفتهنّ لم يكنّ قد أمسكنَ قلم رصاص في حياتهنّ ليكتبنَ أسماءهنّ قطُّ. أجدني -بوصفي كاتبة- مسؤولة عن التمسك بحقهنّ، بتخليد معاناتهنّ والكتابة عنها للعالم في رواياتي وقصصي ولو بعد حين…

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]