جائزة دمشق للرواية العربية: تكبيييييير


معاذ اللحام

لا نحتاج إلى عين ثالثة لنرى الفجوة بين ما هو رسميّ وما هو مدنيّ، ذلك عندما يتعلق الأمر بالثقافيّ بوصفه فعلًا مؤسسًا لحياة مدينة أو شعب. لا نحتاج لأكثر من ثلاثة أصابع وقلب لنكتب عن الوجع، لا نحتاج لأكثر من شمس لنكتشف عوراتنا، لا نحتاج حتى لورقة تين لنستر ما هو مفضوح، ما هو مكبِّل، ما هو نقيض الثقافة، ما هو نقيض الحب، ما هو نقيض الحرية… ولا نحتاج -خصوصًا- لأكثر من طلقة لقتل عصفور؛ العصفور الذي قد يكون اسمه فرح، شعر أو مدنية. ولا نحتاج لأكثر من قبر حيّ لنعلن قيامة يأسنا وخلاصنا من كذبة الأمل.

الآن. اسمعوا واخشعوا:

“دمشق حديثُ الزمان، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، الموطن الأول لخليل اللهْ، على حجرٍ فيها أثرٌ من قدم مصطفاهْ”

الله يفتح عليك يا شيخ.

نتابع: “في ثراها يرقد صلاح الدين، ورأس سيد شباب الجنة، فيها مئذنة العروس أقدم مئذنة في التاريخ، وكنيسة حنانيا أقدم كنائس الشرق”.

ليس هذا الإنشاء غرةُ خطبةٍ فوق منبر مسجد بني أمية الكبير، ولا بدءُ عظةٍ عند مذبح المريمية، ولا محضر حضور الاجتماع بعد ترديد الشعار طبعًا! إنه ببساطة مقدمة الإعلان عن جائزة دمشق للرواية العربية والتي أطلقها اتحاد الكتاب العرب في عموم سورية وسائر المشرق. وأول انفعالاتي العفوية هي: آمين، وكلنا “سوا”: تكبييييير.

ولأني سأعتمد المنهج البيانيّ في تحليل النص، كونه المنهج المحبب لدى المتكلمين وأصحاب المذاهب، ووحده يلائم إنشاء فصيحًا كهذا، ولا يلائم -مطلقًا- هذه البقعة المتحولة من الألم النابض، هذه اللطخة العصبية الحادة جدًا، المدهشة جدًا، كنهاية زخة مطر كثيف جدًا، والتي ندعوها: دمشق.

أرجوكم، شاركوني التلقي العاري لذلك النور الذي يشعّ من النص كون الجائزة أتت استجابة فورية للشعار الذي رفعه المكتب التنفيذي للاتحاد في دورته التاسعة: “ثقافة التنوير”. وليس للنَوَر -مع احترامي الشديد- علاقة بذلك.

يبدأ الإعلان بعبارة غامضة، بمعنى أنها لا تتمتع بسحر الغموض، بل بجهلهِ. “دمشق حديث الزمان”. فمحرر النص -حكمًا- لم يسمع بكتاب: “حديث الزمان” للدكتور أحمد زكي الذي جمع فيه مقالاته في مجلة الهلال، ولن نتوقف عند الرومانسية الابتدائية الملفوفة بغموض مبتذل وشائع ومكرر، عن أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ. ونأتي إلى ذلك السجع “الألّاوي” ولا ينقصنا سوى سبحة وشفاه تبسبس بنعمة الخالق. ذلك ما تؤكده العبارة التالية أيضًا:

“في دمشق يغادر الإنسان جحيم السواد والظلمات إلى فردوس الأنوار”. يا سلام… يا لها من عبارة جزلة مشدودة على وتر، وتبشر الجميع بالجنة الكهربائية. لله الحمد.

ونسأل ونحن البسيطين غير العارفين بأبعاد الفصاحة الخشبية: ما الذي يريده محرر النص “المسابقاتي” للجائزة؟ نعم، إنه يريد التأكيد على التلاحم الوطني من خلال العبارات اللاحقة! هل بقي أحد لم تشر إليه العبارات بالمكونات الدينية السورية، هنا علينا أن نكتشف “ضربة المعلم”. هي كذلك إذن. كم نحن ساذجين -وطنيًا- ولم نكتشف ذلك فورًا! وهذا ما تؤكده فاعلية ثقافية أقامها الاتحاد في فرعه الدمشقي في 2014 بعنوان “أدب، وطن، نقد”. وكأن علينا دحش هذا المصطلح: وطن، في كل العبارات وإلّا اعتبرت ساقطة أدبيًا ووطنيًا.

هناك بند في شروط الترشيح يتعلق بموضوع الجائزة: “سورية في المدونة السردية العربية”. أخيرًا نعثر على جملة حديثة! ولا شك بذلك، إلا أن القضية هي في هذا: تشريط الكتابة. كالذي يعطي موضوعًا إنشائيًا لتلاميذه. هل هي كذلك؛ أقصد الثقافة من منظور الاتحاد؟

الاتحاد الذي تأسس بمرسوم تشريعيّ عام 1969، والذي نص على أن “الاتحاد منظمة عربية مستقلة ذات شخصية اعتبارية”. وإن كنا لن نختلف على استقلالية هذه المنظمة! فإننا لا بد أن نختلف على الشخصية الاعتبارية!!. إن المتابع للشأن الثقافي السوري سيجد أن ثمة تراتبية حجرية من مؤسستين حجريتين -بتفاوت بسيط في شدة القساوة ودرجة النفوذية- هما وزارة الثقافة واتحاد الكتاب. حبلت الوزارة وأنجبت مديريات ثقافية عوانس منذ نعومة أدراجها الرخامية، والمديريات حبلت -ذاتيًا- وأنجبت مراكز ثقافية بثياب أنيقة وحرمان جواني، بضوء انتقائي وتغييب قسري لمن هم خارج التصفيق. وحَبِل الاتحاد وأنجب أصنامًا ورقية ليست جديرة بأن يعبدها أحد، ولا تشبه شيئًا أكثر من اللاشيء، وهل اللاشيء شيء قليل؟ على الأقل يسعى لتحقيق شيئيته. لكن للأسف لا يصل لتحقيقها.

بالمقابل. هناك أصوات تغرد وحيدة، فريدة، حبيسة أقفاص أجبرت على سكنها -ذاتيًا أو غيريًا- وكنتيجة سيرورية لمن هو محبوس، يتلاشى صوته ويضيع في صراخ جوفي لا يتجاوز الحلق.

ذلك هو المركب الثقافي الرسمي السوري. فجوة عميقة بين الثقافة والناس، بين الثقافة والسياسة، بين الثقافة والدين، بين الثقافة والحداثة، فالناس -كل الناس- يمتلكون نظرة تكاد تكون موحَّدة تجاه من يشتغلون بالثقافة: (ترف. إكسسوار، وسط محلول ومنحل، لا يقي من برد ولا يسمن من جوع).

الفجوة كبيرة، وردمها يحتاج أطنانًا من الشِعر والحداثة والديمقراطية والإرادة والحرية.




المصدر