حلب… أوسع من موت معلن


عبد الرزاق دياب

البشر هنا يموتون بالجملة، وبأكثر من سلاح… أقله الرصاص الذي ربما يكون مريحًا لأولئك الذين أنهكهم الحصار والجوع والخوف. تمر طائرة فترتفع الأدعية، والسبابة تهز نفسها مرتعشة خوفًا وخلاصًا بالشهادة التي بالكاد تخرج من شفاه تلونت بالأزرق بردًا، وفجأة يدوي انفجار كبير، وينتشر الغبار في كل الحي حتى القبو فيما يتلمس الناجون رؤوس أبنائهم، ومن ثم يشدون على أيديهم هل ما زالت مكانها… يا الله ما زلنا على قيد النجاة.

اليوم يجرّ الناجون أبناءهم كخراف مذعورة من ذئب الحي، وأمهات يبكين الذل بعد أن أخرجن من بيوت الفقر الهانئة إلى مرارة التشرد والغربة، وشبان لم يكن ظنهم هكذا مصير وخذلان، وفي آخر المشهد عجوز مقعدة مسجاة على كرسيها المعدني.

تآكلت حلب الشرقية، ونما الموت والطاعون في محيطها المهدّم، وهي التي كانت تضج بها الحياة، وفي الأحياء القديمة لم يعد هناك من التاريخ حجر شاهد على فظاعة المشهد… أي همجٍ مروا من هنا، ومن رمى الأرض برحى من جهنم لتبتلع آلاف السنوات التي طوت البشر وخلدتهم، وها هي تذروهم في الريح وطرقات الرحيل… هنا كانت حلب تختصر العالم، وها هو الموت يختصرها رمادًا.

ماذا سيحمل الناجون من متاع… ولد يجرّ دراجته… كيس أسود بالكاد يصمد أمام بعض الحاجيات على كتف امرأة شابة، عجوز يحمل قدميه المتهالكتين، وشاب يسحب أمه المضرجة بالأسى بيد خائفة من مصير تكتبه قذيفة طائشة… صغار يعتلون رؤوس آبائهم التي لا تستطيع احتمال الخروج… وبنت نجت من برميل قضى على كامل عائلتها تلوذ بأصوات أقدام الهاربين. عاشقة شابة حملت دفتر حبها المراهق… تبكي بحرقة حبيبها الذي لم يقبل الخروج من بين الأنقاض التي كانت بيوت جيران القلب… لكنها لحظة فراق بقوة السلاح.

هي صور من حلب التي تستعد للسفر… بشر وتاريخ وأيام طويلة باتت في أحيائها الدافئة… حلب التي يصمت العالم على ذبحها ونقلها إلى الغياب لكنه لن يقدر على مسحها من جغرافيا الأرواح… حلب بإرثها البشري المتنوع يخونها الجميع بعجزهم عربًا وإخوة دم، وبشرًا ملونين بتخاذلهم لأنهم ولدوا في زمنٍ مخصي لا يبالي بالمدن الأمهات.

التوأمان فيكاريو قتلا سانتياغو نصار دفاعًا عن شرف أختهما المخاتل، ولم يتحرك أحد للدفاع عنه وإيقاف الجريمة رغم عدم ثبوتها ضده… ويروي ماركيز في “قصة موت معلن” كيف أن أصدقاء سانتياغو كان يتمنون له هذا المصير، والخلاص منه.

هل موت حلب المعلن يشبه موت سانتياغو المتفق عليه؟ هي مجرد هواجس قبل أن يجهز العالم المتواطئ على أعرق مدن التاريخ، وقبل أن يسلم أهلها للريح والمجهول. حلب أوسع من قصة موت بشرّي واحد مات بتهمة عاطفية، لكنه الخذلان نفسه، والموت الكبير المتفق عليه، والعجز عن صون ذاكرة شعوب تركت رحال تجاربها في مدينة بعمر البشر.

حلب التي لا أصدق مصيرها ستنام هانئة بينما الجميع سيصرخون في كوابيسهم: متنا عندما خذلنا حلب.

“الترا صوت”