حمـار طــروادة


جهاد عبيد

على مفترق أغلق طريقي كجدار إسمنتي، فجأة حاصرتني ابتسامته، قفزت إلى ذاكرتي آخر كلمات قلتها لهم قبل أن أنهض عن مقعدي غاضبًا، وأصفق الباب ورائي وأعتزلهم.

كان الرجل الستّيني واسع الاطلاع، عميق الخبرة، ذا صدر رحب، فكلما جمعتنا مصادفة ما، ابتسم لي ابتسامة العارف المترفّع عن حماقتي تلك، وعن طيشي، وتثاقفي، وقلّة خبرتي ومراهقتي السياسية؛ ما جعلني أكافح -حتى الآن- شعوري بالخجل على ما تفوّهت به من كلمات حينها.

إنها المصادفة تجمعنا من جديد، ابتسامته المترفعة أفقية التردد ذاتها، غير أن صلعته الجرداء اتسعت لتصبح بمساحة وطن قاحل، ومن جديد، أيقظ لقائي به ذلك الشعور المزعج بالخجل. “أهلا أستاذ كيف حالك؟” سؤالي التقليدي البسيط، يُفترض أنه سؤال عابر، كجملة زائدة لا محل لها من الإعراب، لكنه فتح الباب -خلاف ما أردت أو رغبت- على سرد تاريخي طويل حول الصراع الطبقي، والوضع الإقليمي، والمصالح الدولية، وتوازنات القوى، والبلد العالق في أتون المؤامرة الكونية، وموقعه الجغرافي الخاص، ووضعه الجيوسياسي الخطِر، و و و، “يا ربّي دخلت عليك”، بدا الرجل وكأنه قد سقط توًّا على مكان آهل، بعد عزلة طويلة عن الجنس البشري، كأنه كان عالقًا في إحدى غابات الأمازون؟! أو ربما كان منفيًا إلى جزير نائية!!، بدا مهتمًا وشغوفًا بالكلام، وكأنه ينتزع فرصة وجود إنسان ما يصغي إليه! انثالت كلماته وأفكاره دونما توقف، وراح لسانه يخفق داخل فمه الأدرد كخرقة خفيفة نُشرت على حبل غسيل في يوم عاصف.

مداخلته الطرقيّة وافرة التفاصيل، كانت تعويضًا كاملًا عن سنوات انقطاعنا الطويل، اكتشفت من خلالها أن الرجل قد حطّ رحاله الفكرية عند المدرسة السياسية الوطنية السورية الروسية اليسارية الشيوعية المُحدثة، هو الذي بدأ حياته بكداشيًا مُرّا.

الحقيقة لم تكن هذه مفاجأة بالنسبة لي، فهذه نهاية رحلة سياسية كلاسيكية متوقعة لرجل مثله، ولكن ما لم أكن لأتوقعه هي وجهة نظره فيما آلت إليه المحنة، قال:

“دير بالك هه” نحن لم نكن يومًا مع أي نظام استبدادي شمولي في العالم، ولن نكون، ولكن هدفنا الاستراتيجي -من موقعنا اليوم- هو تفكيك هذه المنظومة من داخلها”.

عند هذه الفقرة بالذات شعرت بمهابة اقشعرّ لها بدني، حلّقتُ في عوالم الميثولوجيا وطقوس السحرية والأسطرة، خيّل لي أني في حضرة المقاتلين الإسبارطيين العظماء، رأيت الأستاذ على هيئة حمار طروادة المهيب، يشبه مفخّخة بشرية على شكل حمار جميل، قد تنفجر وتتشظى مناضلين في أي لحظة وكل مكان.

عادت بي الذكرى بعيدًا إلى تفاصيل لقائنا الخلافي الأخير، وإلى الحوار الذي انتهى به، وإلى كلماتي التي طالما أشعرتني بالخجل” هذه السلفيّة الفكرية السياسية لا تختلف عن الدينية أو الجهادية أبدًا، وقد تغدو أخطر في بعض الأحيان. إنها مثل الجزرة اليوم تحملونها في أيديكم. احذروا، غدًا قد تنتقل إلى مكان أأأأخ، آخر”.

ابتسمت شفتاي ابتسامته ذاتها -أفقية التردد- ثم شكرته على جهده، وشجّعته على هدفه البديع، وتمنيت له كل التوفيق.

كان عليّ أن أشكره بشدة، فحمار طروادة الجميل قتل في داخلي وإلى الأبد، شعوري اتجاهه بالخجل.




المصدر