تشتت الفصائل الثورية وتفرقها ينعكس تخبطًا وضبابية على القرارات المصيرية


لا تزال حالة الضبابية تسيطر على الموقف من حضور "مؤتمر أستانة" المقرر عقده في الثالث والعشرين من الشهر الجاري برعاية تركية - روسية من أجل مناقشة الملف السوري، حيث لم تحسم الفصائل الثورية مشاوراتها بعد، وسط وجود احتمالية بتغير موقف من أعطى موافقة مبدئية أو رفضًا مبدئيًّا، لكنه بات من المؤكد أن الفصائل ليست مجمعة على رأي واحد حيال هذا الاستحقاق، سواء الذهاب أو عدمه، على الرغم من انخراطها في جلسات مشاورة فيما بينها لأكثر من أسبوع.

وكحال الملف العسكري، حيث لم تستطع الفصائل على الرغم من مضي 6 سنوات على الثورة السورية الاتفاق على غرفة عمليات جامعة تدير العمليات على كامل الرقعة الجغرافية الثائرة، كذلك لم تتوصل إلى هيكلية أو جسم أو أي شيء يحقق لها وحدة القرار السياسي والتمثيل الخارجي، ولا تزال تتعامل في إطار رد الفعل حيث تجتمع وقت النوازل فقط، على الرغم من أن الفترة التي تلت سقوط مدينة حلب شهدت سيولة غير معهودة بالحديث عن الاندماجات والتنسيق الجبهوي وتم إطلاق المبادرات، لكنه على ما يبدو الأمر لم يتعد "رد الفعل" على الغضب الشعبي وخوف الفصائل وقياداتها من فقدانها للحاضنة الشعبية، باعتبار أن المبادرات كلها بقيت حبيسة الأدراج، على الرغم من الحاجة الملحة لتمثيل عسكري وسياسي مشترك أكثر من أي وقت مضى.

أخطاء استراتيجية خلال اتفاقية وقف إطلاق النار

وقعت الفصائل العسكرية بأخطاء عديدة منذ توقعيها على اتفاقية وقف إطلاق النار في نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 2016، حيث باشرت العملية التفاوضية بنفسها، وقبلت باستثناء الهيئة العليا للمفاوضات (وهو مطلب روسي أساسي على أية حال)، على الرغم من أن الغالبية العظمى للفصائل فوضت خلال مؤتمر الرياض الهيئة بالتفاوض باسمها، حيث تتمسك الأخيرة بمرجعية "جنيف 1" من أجل الحل السياسي في سوريا، الذي ينص على تشكل هيئة حكم انتقالية من أجل تحقيق عملية انتقال سياسي.

" الهيئة العليا للتفاوض أكدت في بيان لها أهمية استكمال مفاوضات جنيف من أجل الحل السياسي، واعتماد بيان جنيف عام 2012، وكذلك ضرورة الحضور العربي والدولي، خاصة من وقف مع الشعب السوري، وأبدت استعدادها لدعم الوفد العسكري السوري تقنيًّا ولوجستيًّا معتبرةً أن مؤتمر الأستانة هو خطوة تمهيدية لجولة قادمة من مفاوضات جنيف المرعية أمميًّا".

ويرى خبراء سياسيون أن أبرز مخاطر تحييد الأجسام السياسية عن مؤتمر أستانة تتمثل في أن الفصائل العسكرية غير قادرة على مباشرة العلمية التفاوضية بنفسها، بسبب قلة خبرتها بالعمل السياسي، واختلاف مواقفها بين مؤيد ومعارض للمؤتمر، مما سيؤدي لإضعاف موقف الذاهبين والرافضين معًا، ويضعف الثورة ككل، حيث ستظهر مكوناتها مرة جديدة أنها غير متجانسة، وستسمح للخصوم بالعبور من تلك الثغرة، وكذلك فإن تحييد الهيئة العليا للتفاوض هي محاولة روسية واضحة لنسف مرجعية جنيف التي تنص على عملية انتقال سياسي، وإحلال مرجعيات جديدة محلها قد يكون أعلى سقفها تشكيل حكومة وحدة وطنية، والحفاظ على مؤسسات الدول كما هو الطرح الروسي المعتاد دون النصِّ على أي عملية انتقالية للسلطة، ومما يعزز هذا الفرض أن وفد  النظام السوري الذي سيشارك في المؤتمرعسكري بامتياز وغير سياسي.

" تباين المواقف بدا واضحًا من خلال تصريحات الناطق الإعلامي أسامة أبو زيد؛ حيث أكد أن الوفد الذاهب للأستانة سيمثل كل الفصائل، على الرغم من أن العديد منها لا تزال حائرة ولم تحسم موقفها"

ويعتبر من الأخطاء التي وقعت فيها الفصائل العسكرية عدم اعتمادها على مستشارين سياسيين وحقوقيين ضليعين يمثلونها، ولهم خبرتهم في هذه الاستحقاقات، فمن المعلوم أن الفصائل لم تمارس أي مفاوضات سياسية مسبقًا، وجل خبراتها إن لم تكن كلها عسكرية بحتة، وما خاضته سابقًا من مفاوضات كانت عسكرية بحتة، من أجل عقد هدن متفرقة كما هو الحال في هدنة الزبداني والفوعة.

اختلاف التحالفات انعكس على المواقف 

من الواضح أن مواقف الدول الإقليمية والعالمية المؤثرة بالملف السوري ليست واحدة من حضور مؤتمر الأستانة، وهذا الأمر انعكس بشكل واضح على مواقف الفصائل الثورية، كل بحسب تحالفاته، فقد سارعت الجبهة الجنوبية المتحالفة بشكل أساسي مع الأردن والولايات المتحدة على لسان متحدثها الرسمي عصام الريس إلى رفضها لاتفاق الهدنة، الذي تم برعاية تركية - روسية، معللًا ذلك بعدم دعوة الجبهة لحضور الاجتماعات، وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الفصائل الداخلة ضمن غرفة عمليات الموك والموم، التي لا تزال حتى لحظة إعداد التقرير رافضة للذهاب، والحديث هنا عن جيش إدلب الحر وفيلق الرحمن وجيش المجاهدين وفرقة الحمزة، وكذلك رفضت بعض الفصائل المرتبطة بتحالفات عسكرية مع "فتح الشام" مثل حركة نور الدين الزنكي، في حين أبدت الفصائل الداخلة بحلف مباشر مع تركيا ضمن غرفة عمليات درع الفرات مرونة أكبر، وأبدت موافقتها بشكل سريع، كلواء السلطان مراد والجبهة الشامية.

معضلة أحرار الشام 

تعتبر حركة أحرار الشام الإسلامية من أكبر الفصائل العسكرية الممتدة تقريبًا على كامل المناطق المحررة في الجنوب والشمال والوسط، ويمكن القول إن العديد من الفصائل بات يرتبط موقفها العسكري والسياسي بالحركة، والدليل ما حصل خلال مفاوضات إجلاء المدنيين من حلب، حيث تم تسليم زمام الأمور للقيادي في أحرار الشام "الفاروق أبو بكر"، وكذلك توليها ملف هدنة الفوعة - الزبداني، كما أن العديد من الفصائل، أبرزها صقور الشام وجيش المجاهدين يربطون اليوم موقفهم بما يخص مؤتمر الأستانة بموقف الأحرار.

ويبدو أكثر من أي وقت مضى أن الحركة باتت لديها مشاكل وتباينات داخلية شلَّتها عن اتخاذ قرارات حاسمة تمامًا، ووصلت هذه التباينات ذروتها عند تشكيل جسم داخلها باسم "جيش الأحرار" بقيادة أبو جابر الشيخ، القائد السابق للحركة، وبسبب تلك التباينات لم تستطع مؤخرًا حسم موقفها تجاه أي اندماج، سواء إلى جانب فريق "فتح الشام"، أو إلى جانب فصائل الثورة، وعلَّل قائدها "أبو عمار العمر" في مقابلة صحفية رفضها للاندماجين بعدم رغبتها في إحداث استقطاب، وبيَّن أن الحل في عمل جبهوي، إلا أن "فريق جيش الأحرار" وبعد انتشار أنباء تشكيل مجلس قيادة تحرير سوريا بإطار تنسيقي جبهوي رفض الفكرة، معتبرًا ذلك تخليًا عن "فتح الشام"، مما يعني الفشل في تطبيق الحل الذي طرحته أحرار الشام أصلًا بسبب الانقسامات الداخلية.

وعلى الرغم من امتلاك أحرار الشام لكوادر كثيرة، واشتغالها منذ بداية تأسيسها بالهيئات المدنية، واعتنائها بالمكتب السياسي، إلا أنه من الواضح أن دور هذه الكوادر والخبرات بات هامشيًّا في اتخاذ القرار، وأصبحت حبيسة الاستقطابات الحاصلة في مجلس الشورى المنقسم على نفسه، حيث ظهر هذا الانقسام جليًّا بتعليق 8 أعضاء لعضويتهم قبل تشكيله "جيش الأحرار الذي يغلب عليه طابع السلفية الجهادية"، وهذا المجلس بالأصل يعتمد في تشكيله على توازنات ومحاصصات بحسب الكتل، بغضِّ النظر عن الكفاءة، وعلى ما يبدو فإن هذا الاستقطاب هو السبب الرئيس دومًا في إبقاء أحرار الشام بمنطقة الوسط، سواء التعاون والتنسيق مع الفصائل المختلفة، أو من حيث مواقفها من الاستحقاقات السياسية التي أدارتها خلال الفترات السابقة بمعادلة "حضرنا ولم نوقِّع".

خاتمة: بالتأكيد فإن ما تم استعراضه في فقرات سابقة لا يهدف بأي حال من الأحوال إلى تخطيء مَن اتَّخذ قرار الذهاب أو عدمه، ولا يهدف إلى الإنكار على الفصائل وجود تحالفات لها، لأن تلك التحالفات شرط أساسي في استمرار مسيرتها ضد النظام، لكنه يسلط الضوء على مدى حالة التخبط التي تسبب بها غياب قرار عسكري وسياسي واحد للفصائل الثورية، تستطيع أن تتمسك به أمام الاستحقاقات، وتستطيع أن تفرضه على الحلفاء قبل الأعداء حتى لا تضيع تضحياتها والدماء التي قدمتها ولا تزال تقدمها، وإلا فلتنتظر المزيد من فقدان الحاضنة الشعبية، والمزيد من انعدام الثقة في المكونات الثائرة وكذلك تضييع فرص استثمار التضحيات.