دير الزور.. مدينة حُكم عليها بالإعدام


ثاني أكبر مظاهرة في الثورة السورية نادت بإسقاط نظام “الأسد” عندما كانت الثورة سلميّة كانت في مدينة دير الزور بعد مدينة حماه، وشباب العشائر والقبائل وأهالي مدينة “دير الزور” كانوا من أشد المقاتلين الذين أعطوا دروساً في الشجاعة والبطولة خلال معارك الثورة وعلى كافة الجبهات.

مدينة “دير الزور” التي ما بخلت بشبابها وشيبها وحتى أطفالها بالتضحية من أجل الثورة تركوها اليوم غنيمة وفريسة لعصابتين تتناوبان على ترويع أهلها وقتل أبنائها.

مع انطلاقة الجيش الحر كانت بنادق فرسان الدير تزغرد في ساحات المعارك وكانوا ذو بأس وعزيمة وحرروا معظم المدينة وريفها وسيطروا على مواقع حساسة للنظام، وفجأة انقلب السحر على الساحر بقيادات خلبية تلاعبت بمصير المدينة، وبقيادات سياسية وعسكرية اعتبرت “دير الزور” خارج جغرافية الثورة السورية، فدخلها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ليعيث فيها فساداً وإجراماً، وليقتل ويطرد فصائل الجيش الحر ويعدم شبابهم. ولم تنفع كل توسلات أبنائها الذين طالبوا بالدعم والإمداد للقتال وللدفاع عن تلك المدينة التي ما خفضت رأسها يوماً لا لمحتل ولا لديكتاتور.

 

الآن تتصارع في المدينة قوتان تنحصران بداعش وعصابة النظام، وأهالي مدينة دير الزور من يدفعون من دمائهم الطاهرة ثمن الصراع الدائر بينهما أو ثمن حصار امتد لثلاث سنوات ذاقت خلالها المدينة الأمرّين.

مع اشتداد المعارك في مدينة “الموصل” العراقية وفي مدينة “الباب” السورية شعر تنظيم “داعش” بخطورة الموقف العسكري وباضمحلال مساحة دولته المعلنة، فمعركة “الموصل” هي معركة شبه محسومة النهايات لصالح القوات الحكومية العراقية وحلفائها لكنها تنتظر موعد الإعلان، والمعارك التي تدور الآن داخل المدينة وسيطرةُ القوات الحكومية العراقية على ثلاثة جسور على نهر دجلة والسيطرة على الجامعة وحِرمان التنظيم من كثير من نقاط القوة، دفع بقيادة تنظيم “داعش” للتفكير بحماية خطوطه الخلفية في مدينة “دير الزور” وتمتين دفاعاتها والتخلص مما تبقى من عصابة “الأسد”.

من ناحية ثانية جاء اشتداد وطيس المعارك في مدينة “الباب” أيضاً بين تنظيم “داعش” والفصائل المنضوية تحت راية عملية “درع الفرات” المدعومة لوجيستياً وعسكرياً من قبل الجيش التركي، وهي أيضاً معركة وقت والحسم فيها قادم لصالح الجيش الحر وبالتالي ازدادت الضغوطات على التنظيم لتدفعه لتغيير التكتيكات المتبعة وتغيير النمط الذي كان منهجه خلال السنوات السابقة.

 

خسارة مدينتَي “الموصل” و”الباب” تنتظر الإعلان وقد تمتد لأسابيع أو أشهر قليلة لكنها بالنهاية قادمة ومعها تكون قد تقلصت مساحة الدويلة الداعشية وتمت قصقصة أجنحتها البعيدة، وهذا ما دفع بقيادة “داعش” للتفكير بالخطوات التالية؛ فالقتال التقهقري هو قتال دفاعي لكنه دفاع غير مجهز وغير محصن ولا يُفلح في قتال عدو يتميز بقوة سلاحه الجوي وقدرته على رصد واستطلاع الدفاعات المكشوفة بل والقيام بعمليات نوعية تستهدف مفاصل التنظيم كعملية الإنزال التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة “الكبر” الأسبوع الماضي والتي أدت لمقتل المسؤول المالي وجامع ضرائب التنظيم الأمير “أبو أنس العراقي” مع قتل وأسر مجموعة يتجاوز عددها الـ25 مقاتل، واصطحاب قوات الإنزال لجثث وأسرى تم إلقاء القبض عليهم في منطقة العملية، والقوة المنزلة جواً (6 حوامات من ضمنها حوامات دعم ناري إضافة لطائرتين حربيتين تناوبت على حماية سماء المعركة ورصد أي تعزيزات لداعش إلى منطقة الإنزال)، وتم الإنزال بمساعدة مقاتلين عرب (يُعتقد أنهم من ميليشيات صالح مسلم). تلك القوة حصلت على كثير من الوثائق التي ستدعم بنك المعلومات العسكري والاستخباراتي للأمريكان الذين يقاتلون بروية وبهدوء وبسياسة كثيراً ما يكتنفها الغموض وحتى التشكيك بسياستها في مواجهة الإرهاب لكنهم أحياناً يقتنصون الفرص بإنزال ضربات موجعة بحق التنظيم.

 

المعارك التي اندلعت صبيحة يوم السبت (14-1-2017) لم تكن مفاجئة ولا معارك غير متوقعة فكلا الطرفين حشدا للمعركة بل وقامت طائرات النظام بقصف مواقع مهمة لـ”داعش” بمحاولة منها لإجهاض العملية بعد رصدها لتحشدات مقاتلي التنظيم في منطقة “الصناعة” و”حويجة صكر” واستقدمت تعزيزات إضافية عبر الحوامات من مدينة “الحسكة” وأنزلتهم في اللواء “137” غربي دير الزور لتدعيم الخطوط الدفاعية لميليشيات النظام، وكذلك ساندت ضربات طائرات التحالف الدولي لجهود قوات “الأسد” عبر ضربات جوية (لطائرات فرنسية) استهدفت بعض مناطق التنظيم مثل موقع “معمل الكونسروة” في مدينة “الميادين” وغيرها من مواقع تحشد مقاتلي التنظيم والمناطق ذات البعد الحيوي المهم عسكرياً.

بالمقابل استقدم تنظيم “داعش” الكثير من التعزيزات العسكرية والإمدادات من مدينة “الموصل” العراقية، وعلى عكس ما يتم الحديث عنه من أن “الحشد الشيعي” العراقي قد قطع طريق إمداد “داعش” في العراق مع الأراضي السورية وحاصره في محيط “الموصل”، فأرتال الدبابات الداعشية والأسلحة الثقيلة انتقلت دون أي معوقات من “الموصل” إلى “دير الزور” عبر “الشدادي” وعلى طريق بطول يصل لـ400 كم. ومن تلك القوى التابعة للتنظيم ما ذهبت مباشرة لتدعيم القتال الدائر في مدينة “الباب” ضد فصائل عملية “درع الفرات” وقسم من تلك التعزيزات ذهبت إلى محيط مطار “تي فور” في ريف حمص الشرقي، وساهم بالنجاحات التي حصلت هناك ومن خلالها سيطر التنظيم على مساحات كبيرة وحقول نفطية مهمة.

 

كل الضربات الجوية لطائرات الأسد وكل التعزيزات لم تستطع وقف العملية التي أعلنها تنظيم “داعش” صباح يوم السبت والتي انطلقت عبر محورين:

المحور الأول: توجه نحو “البغيلية” ومقرات وكتائب اللواء (137) غربي دير الزور.

المحور الثاني: توجه نحو منطقة “هرابش” ومطار دير الزور في جنوب المدينة.

الساعات الـ48 الماضية حملت معها تراجعًا وانحسارًا لمواقع النظام وتقدمًا لمقاتلي “داعش” الذي سيطر على كتيبة “التأمين” في محيط المطار بعد أن سيطر على معظم جبل “الثردة” وكذلك بعد سيطرته على “مساكن الضباط” وأسره للعديد من جنود “الأسد” وسيطر على “مشفى الأسد” في المدينة والقتال يدور حول “مدرسة الشرطة” قرب المشفى مع قطع التنظيم للطريق الحيوي الذي يربط اللواء 137 بمطار دير الزور والذي يتم عبره نقل معظم إمدادات وتذخير المطار نظراً للمستودعات الكبيرة التي يحويها اللواء.

التصريحات الخنفشارية والاستفزازية التي رددها بعض أغبياء “الحشد الشيعي” العراقي وبعض قادة أكراد “صالح مسلم” والتي عبرت عن نية “الحشد” بالتوجه إلى سورية لقتال الإرهاب (كما ادعوا)، وتصريحات بعض قادة “مسلم” عن أن ميليشياتهم في مدن “الحسكة” و”القامشلي” ستتوجه للقتال في “دير الزور” لاستعادة المدينة وتحريرها من “داعش”؛ هذه التصريحات التقطها قادة وشرعيو تنظيم “داعش” ووظفوها خير توظيف بين المدنيين وشباب المدينة مستغلين حالة الخوف في قلوب أهالي “دير الزور” من إجرام عصابات “الحشد الشيعي” وعصابات ميليشيات “مسلم”، وهذا ما دفع بالكثير من الشباب الديري للالتحاق بصفوف التنظيم والقتال إلى جانبه مما شكل رصيداً بشرياً يُضاف إلى قدرات التنظيم القتالية وأعطته جرعة معنوية وقتالية وظفها في معاركه هناك والتي قد تُفضي لسيطرة التنظيم على كامل مدينة “دير الزور” إذا ما حسم “داعش” معركتي المطار واللواء (137) اللتين تشكلان مفتاحي أبواب السيطرة على المدينة.

 

 

خلال السنوات السابقة اعتاد نظام الأسد على توظيف معاركه مع تنظيم “داعش” إعلامياً من خلال الإدعاء بأن جهوده منصبّة بالحرب على الإرهاب لتقديم أوراقه بهذا الخصوص كي يكون شريكاً مع التحالف الدولي بالحرب على “داعش” لكن المعطيات على الأرض تُنبِئُ بعكس ذلك، فما نشرته الصحافة الروسية (حليفة النظام) قد جرّد “الأسد” وفضحه وأزال آخر ورقة توت تستر عورته عندما أظهرت التقارير الروسية التي سُربت للإعلام الروسي تواطؤ مخابرات وقادة النظام في تسليم مدينة “تدمر” قبل أسابيع، والتسبب بحصار أكثر من 320 جندي روسي أنقذهم طيران “بوتين” بمعجزة عسكرية بعد أن تم توظيف أكثر من 12 طائرة جواً استطاعت فتح ثغرة في جدار الحصار الداعشي وإخراجهم بعد أن قُتل عدد من الجنود الروس ومن ضمنهم قائد الكتيبة الروسية العاملة هناك والتي كانت تتمركز في المتحف الحربي وفي القلعة الأثرية قرب مدينة “تدمر”.

وفضائح النظام لم تتوقف عند هذا الحد فسيطرة الجيش الحر (منذ يومين) على قافلة صهاريج نفط تعدادها بالعشرات وتحمل مئات ألوف اللترات من النفط الخام والتي كانت ذاهبة من مناطق التنظيم باتجاه “مصفاة حمص” و”مصفاة بانياس” تكشف الدعم المادي الذي يُقدمه نظام “الأسد” لـ”داعش” إذا ما علمنا أنه من أولى مبادئ الحرب هو تجفيف مصادر دعم العدو، فكيف يقاتل النظام “داعش” وهو يمده مادياً عبر شراء النفط الداعشي ويقدم له أيضاً في “تدمر” ولمرتين متتاليتين ثاني أكبر مستودعات سلاح عسكرية استراتيجية لجيش الأسد تتموضع في الجنوب الغربي من المدينة والتي تضررت من وصولها لأيدي “داعش” حتى روسيا والولايات المتحدة الأمريكية عبر تصريحات صدرت عن وزارة الدفاع الأمريكية تؤكد أن الأسلحة التي حصل عليها التنظيم ومنها صواريخ دفاع جوي تشكل تهديداً للطائرات الأمريكية العاملة في السماء السورية.

بالتأكيد الأيام القادمة تحمل الكثير من المستجدات والتغيرات والاختلاف بموازين القوى العسكرية على كامل الجغرافية السورية، وقد تكون مدينة “دير الزور” هي المحطة الأكثر توهجاً وإثارة للاهتمام في المرحلة القادمة نظراً للأحداث الهامة المتوقعة فيها. لكن ما يغيب عن عيون الإعلام وما يغيب عن مؤسسات ومنظمات المجتمع الدولي والأمم المتحدة هو مصير مئات آلاف المدنيين السوريين من أهالي مدينة وأرياف “دير الزور” الذين يدفعون من دمائهم ودماء أطفالهم ونسائهم أثمان صراعات بين عصابة “الأسد” وعصابة “البغدادي” تلك المعارك التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

فهل تحرك تلك المعارك الدامية ضمير العالم الذي تناسى تلك المدينة الكبيرة برجالها وشهامتها وأخلاقها؟ أم يكونون أرقاماً وأمواتاً تتسارع وكالات الأنباء لتعداد قتلاهم دون شفيع ولا منقذ؟

مدينة “دير الزور” تُذبح بصمت

لك الله يا دير الزور



صدى الشام