تاريخ الجنون العربي: مراتب “الحكمة” التسع


تشغل صورةُ المجنونِ العاقلَ مذ عرف الأخير عقله قياساً للنقص في/ أو فقدان الأخير له، فكان للمجنون حضورٌ في الأسطورة والفلسفة والأدب وفي أحاديث العامة. حضورٌ تفاوت بين التسلية والجزع والدراسة والمقابلة – مقابلة المجنون بالعاقل. والاستخدام في الصراعات على السلطة والدين والتمثيل.

عربياً سرت أخبار المجانين على لسان العامة. تناولها الشعراء، وأدرجوا ضمن هذه الفئة، فيما حمل الطب العربي أدواته لعلاج هذه الفئة بالموسيقى. وكانت النصوص ( مقدسة – دينية – فلسفية – أدبيّة) تحاول النظر في الجنون وصوره. نسخ بعض هذه النصوص في تناولها المجنون بعضها البعض، أضافت أخرى، واستلف مدونو بعض هذه النصوص أدوات ليست أدواته في تناوله صور الجنون العربيّ.

كان آخر هذه الأعمال التي حاولت الدخول إلى عالم الجنون “صورة المجنون في المتخيل العربي منذ العصر الجاهلي حتى القرن الخامس الهجري”، للعراقي وسام العبيدي الصادر مؤخراً عن ابن النديم وروافد 2016. قبله كان أحمد خصخوصي يتناول الجنون في عمل له قارب فيه المدة الزمنية التي اشتغل عليها العبيدي، فكانت منذ العصر الجاهلي وحتى القرن الرابع الهجري. مؤلفات كثيرة تناولت هذه الموضوع. فما الذي أضافه العبيدي لمسيرة البحث عن هذه الفئة؟

يحسب للعبيدي في بداية العمل أسلوبه الصارم في إيراد المصطلحات، – لا تسير هذه الصرامة على طول العمل – إذ وقع كما سابقيه بالخلط نفسه – صرامة تطلبت من العبيدي أن يفرد أول 40 صفحة من عمله في مقاربات اصطلاحيّة عمّا تحيل إليه مفردات عنوان العمل: “مفهوم المتخيّل، مفهوم الصورة، مفهوم التمثيل”، قبل أن يعاين المجنون من أربعة جوانب (الأسطوريّ – الفلسفي – النفسي – الأدبي).

يقع العبيدي في تناوله لموضوع الجنون في المكان الذي وقع فيه سابقوه، وكان العبيدي قد أشار لخلط أدرج فيه الجاحظ مفردات مثل (النوكى – الحمقى) ضمن مفردة المجنون. يفتح العبيدي فقه اللغة للثعالبيّ ليدرج ما صنّفه الأخير تحت باب الحمق، وسينسى العبيدي، أو سيغفل أن الثعالبي قد أفرد أيضاً تصانيف عن الجنون، وهو موضوع دراسته حديثة الصدور. وهو خلط وقع. لكن، ما الذي دفع العبيدي – على صرامته في البحث – كما الجاحظ للوقوع في هذا الخلط؟

كثرة أتت بالخلط

“إذا كان الرجل يعتريه أدنى جنون وأهونه فهو موسوس”. تلك أولى مراتب المجنون التي رتّبها الثعالبيّ في ست مراتب لكل مرتبة اسم، كذا للأحمق، رتّب صاحب فقه اللغة تسع مراتب أوّلها “إذا كان الرجل به أدنى حُمقٍ وأهونه فهو أبله”، فيما حمل لسان العرب عشرات الألفاظ بين مهجور ومتداول تقود للدلالة على المجنون. لا تقتصر أسماء المجنون على الإنسان، إذ أحصى النيسابوري في تصنيف ظريف ما تطلقه العرب على أسماء الجنون عند الحيوانات: الهيام للإبل والثول للشاة والكَلب للكلب.

هذه كثرة في أسماء ومراتب المجنون ستقود للخلط عند من أفرد أعمالاً في أخبار المجانين والبلهاء، مصادفةً أيضاً خلط فوكو في تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ بين الأحمق والمجنون، في هذا الشأن يصف مترجم العمل سعيد بنكَراد فوكو بأنه استخدم أوصافاً “قد لا تكون بالغة الدقة”.

وعلى قدر هذه الكثرة في أسماء المجنون، كانت كثرة صور المجنون في المخيال العربيّ تتغيّر وتتقلب، إذ افتتحت المخيلة بصورة المجنون المقدس (الشاعر) وانتقلت إلى صورة المرفوع عنه القلم في صدر الإسلام، ومن ثم البهلول العارف، وفي العصرين العباسيّ والأموي طغت صورة المجنون الذي يناط به دور الإضحاك في البلاط وصورة المجنون المُخترع في مواجهة السلطة، لكن صورةً ستبقى الأكثر انتشاراً وثباتاً قياساً لباقي الصور، وهي صورة المجنون الذي يوضع بإزاء العاقل في قصد لتأكيد وتعريف العاقل بنقيضه المجنون.

المجنون لمواجهة السلطة

“دخل ابن الجصاص يوماً على ابن الفرات الوزير الخاقاني وفي يده بطيخة كافور، فأراد أن يُعطيها الوزير ويبصق في دجلة، فبصق في وجه الوزير ورمى البطيخة في دجلة، فارتاع الوزير، وانزعج ابن الجصاص وتحيّر وقال: والله العظيم لقد أخطأت وغلطت، أردتُ أن أبصق في وجهك وأرمي البطيخة في دجلة”.

تلك واحدة من صور كثيرة أوردها ابن الجوزي عن ابن الجصاص، قبل أن يعود في النهاية ويورد أخباراً نقلاً عن علي بن أبي علي التنوخي تؤكد التجني على شخصية ابن الجصاص الذي رأته الناس “شيخاً حسناً طيب المحاضرة”، كذا أُلبس ابن الجصاص صورة المجنون للاستخدام في صراع وزراء البلاط. وبخلاف ابن الجصاص، كانت جمهرات مجانين متخيّلة ومخترعة لا تحمل أسماءً وأنساباً توجد بهدف الحطّ من صورة الولاة والقضاة وحتى نساء البلاط الأكثر عفّة اللائي طالهن المجنون حين عجزت سلطة الشاعر عنهم. كذا أيضاً استخدم المجنون في صراع الفرق (الشيعة والسنة) والآراء (خلق القرآن) والفتن (الجمل)، وفي الأخيرة استخدمت شخصية صبرة بن شيمان رئيس الأزد يوم الجمل كمجنون ينقل عنه الجاحظ أخباراً تدلّل على جنونه ليعود بعدها للقول بأنه – الجاحظ – سمع لصبرة “كلاماً لا ينبغي أن يكون صاحب ذلك الكلام”.

الخوف من اثنتين

عشرات المؤلفات التي أوردت أخبار المجانين ومراتبهم، أو عرضت لمسألة الجنون والعقل (ابن الجوزي – النيسابوري – الجاحظ – ابن عبد ربه الأندلسي) ويجتمع هؤلاء في مؤلفاتهم على خشية اثنتين؛ حديث الرسول “ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ثم ويل له”، وتهمة ترك الجد في التأليف. امتدح ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين الضحك، وبحث عن شواهد تجيز وتبرّر تداول أخبارهم، وبرر ابن عبد ربّة الأندلسيّ في العقد الفريد كغيره تناول أخبار المجانين التي ستكون “سكناً للروح ولقاحاً للعقل”. تلك يتركها العبيدي في بحثه، إذ ينسى أو لا يورد سلطة الحكم الشرعي على الضحك في بداية الإسلام. إنما يقتصر تعليقه في هذا الشأن على أنَّ “ما يميز النوادر والمواقف التي ظهر بها حمقى العهد الإسلاميّ الراشديّ أنها حافظت على شيء من الوقار والأدب”.

في أوروبا، أعاد فوكو قراءة التاريخ للبحث عن “سفينة الحمقى” وصورة المجنون، بين العصور الوسطى، والعصرين الكلاسيكي والنهضة، وكيف استبدل الفجع الأكبر في القرون الوسطى من الجذام بفجع الجنون، قبل أن تُعاد للمجنون رفعته.

أخرج فوكو “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” “كأول عمل نظري متكامل” له، وسيكون للعمل تأثير على من تناول سيرة المجنون العربيّ حديثاً، ومنهم العبيدي الذي استلف أدوات فوكو. إذ لا يزال العمل منذ تجاوز المقدمة يؤكد ويشرح ويدلل على استبعاد فئة المجنون من الوسط العربي العاقل، كفعلٍ يؤكد من خلاله العاقل وجوده باستبعاد ضدّه. وتلك فكرة “سفينة الحمقى” التي وظفها فوكو في جزء من عمله.

المجنون لتعريف العاقل

يسأل أبو حيّان التوحيدي في الليلة الواحدة والثلاثين من الإمتاع والمؤانسة “ما الذي يبلغ بنا هذا الاستطراف إذا سمعنا بحديث المجانين”؟ يحمل سؤال التوحيدي عن الدافع وراء “استطراف (العاقل) لحديث (المجنون)، الكثير، كما ويحمل ضمناً سلّماً يكون فيه (العاقل) أعلى مرتبةً من (المجنون). سنجد جواباً عند فوكو على سؤال التوحيدي، في دافع استطراف (العاقل) حديثَ (المجنون) كونه “يقول في لغة الأبله التي لا تتميز بأي عقل، كلام العقل”. هذه الثنائيّة بين العاقل والمجنون، استخدمت في الثقافة العربية أيضاً لتأكيد الأول (العاقل) بالانتقاص من الثاني (المجنون) وتعريف الأول بضدّه.

سينكسر ترتيب درجات السلّم – (العاقل) في مرتبة أعلى و(المجنون) في مرتبة أسفل – في فترات من الحضارة الأوروبيّة حيث “الجنون قد تحوّل إلى إغواء، فكل ما فيه من مستحيل وعجائبي ولا إنسانيّ وكل ما يشير داخله إلى الطبيعة المضادة وقوة اللامعقول ومباشريّته، كل هذا يعطيه بالتأكيد سلطته العجيبة، إن حرية أحلامه حتى وإن كانت مرعبة واستيهامات جنونه شكلا عند إنسان القرن الخامس عشر سلطة مثيرة أكثر من الواقع المرغوب فيه”. يحاول العبيدي أن يجد في الثقافة العربيّة كسراً مثل هذا الكسر الذي طرأ على صورة المجنون في أوروبا، وسيجد أمامه أويس القرني “أول من نسب إلى الجنون في الإسلام” الذي ألهب الرواة لتتبع أخباره كأحد من ألهم البهاليل والمتصوفة بالسلوك، من خلال اعتزاله الناس. ويجد العبيدي عند ابن خلدون ما يدعم فكرته، إذ يصف ابن خلدون هذه الفئة: “ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء، وهم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية وأحوال اليقين”.

الفئة المتخيلة

“يُستدلُّ على صفة الأحمق من حيث الصورة بطول اللحية، لأنَّ مخرجها الدماغ فمن أفرط طول لحيته قلَّ دماغه، ومن قلَّ دماغه قلَّ عقله، ومن قلَّ عقله فهو أحمق”. تلك كانت إحدى التعميمات التي أنتجها الخيال العربيّ وأوردها الأبشيهيّ، والتي يُمكن تحتها أن يُدرج في قائمة طويلة بالتجني عليهم، في حين أن المخيلة نفسها كانت تخترع (بهاليل وجحوات) دون نسب، منهم: دقة، سعيد القرقرة مضحك النعمان بن المنذر، بهيس. مجانين اختراعٍ أُوجودا في عوالم من تسلية ودسائس، حيث “ستحل محل كل هذه العوالم رؤية للعالم تدمر داخله كل حكمة”.



صدى الشام