نيويورك تايمز: “المتاهة اللغوية للأخبار العربية”


أحمد عيشة

طاقم نشرات الأخبار في قناة الجزيرة، الدوحة، قطر. تقدم مختلف القنوات الإخبارية التلفزيونية العربية روايات مختلفة اختلافا جذريا عن الأحداث نفسها. فيصل التميمي / وكالة الصحافة الفرنسية -صور غيتي

عندما استعادت الحكومة السورية حلب الشرقية من المتمردين في كانون الأول/ ديسمبر، اعتمدت القصة -التي سمعتها في العالم العربي حول ما كان يحدث إلى حدٍ كبير- على الجهة التي حصلت منها على الأخبار.

في بعض القنوات، كانت حكايةٌ بطولية عن “تطهير” الجيش السوري لمنطقة “الجماعات المسلحة” أو “الإرهابيين” قبل التوصل إلى عملية “المصالحة”. وفي القنوات الأخرى، لقد هزمَ “النظامُ” “الثوارَ”، وخطط لتنفيذ عملياتِ “تطهيرٍ عرقي” ضد “الشعب السوري.”

مثل تلك الروايات المختلفة اختلافًا جذريًا عن الحدث نفسه، هي أبرزُ ملامح المشهد الإعلامي في العالم العربي، واقعٌ كان يتوجب عليّ أن أعرفه حتى أتنقل خلال العقد الذي عشته وعملت فيه هنا كصحفي. هناك المئاتُ من القنوات الإخبارية على مدار الـ 24 ساعةً، من القنوات العملاقة مثل قناة الجزيرة وقناة العربية، واللتين تعكسان وجهات النظر القطرية والسعودية، تواليًا، إلى القنوات الأحدث مثل قناة الميادين، التي تتخذ خطًا مواليًّا لإيران، جنبًا إلى جنب مع عدد من القنوات الوطنية الأخرى.

حتّى الجماعات المتشددة مثل حزب الله وحماس، لديها شبكاتٌ تبث الأخبار والبرامج الحوارية وأشرطة الفيديو والموسيقى المثيرة عن تقدم المقاتلين خلال الغابات وعن إطلاق الصواريخ. بعيدًا عن كونهم وسائط مستقلة للمعلومات. لهذه القنوات داعمون أقوياء يوظفونها لدعم برامجهم وإضعاف خصومهم.

ماذا يعني ذلك بالنسبة إلى المشاهد، وإلى طالب اللغة العربية، هو الحاجة إلى فك شفرةٍ معقدة من المفردات المشحونةِ سياسيًّا والتي يمكن لاستخدامها أن يضلل بسرعةٍ وجهات النظر السياسية لشخصٍ ما. مَن “الشهداء” في سورية، على سبيل المثال؟ جنودُ الحكومة الذين قتلوا على يد المتمردين، أم المتمردون الذين قتلتهم الحكومة؟ من “المقاومة”؟ حزب الله والجماعات الأخرى الملتزمة تدمير إسرائيل، أم الميليشيات التي تقاتل لطرد الحكومة في اليمن؟

خَطوتُ لأولِ مرةٍ في هذه المتاهة اللغوية بينما كنت أدرس اللغة العربية في القاهرة في عام 2004، حيث كانت الحرب في العراق مشتعلة وكانت التقارير الإخبارية جزءًا كبيرًا من الدروس، في التاسعة صباحا، كانت الدروسُ تبدأ أحيانًا بصور عن المدنيين الجرحى النازفين الذين يُنقلون إلى المستشفى، أو لاحتراقٍ من دون لهبٍ لا يزال يشتعل نتيجة هجومٍ بقنبلة، وبعد انتهاء الدرس، أنسلُّ إلى مقهى لأُذاكرَ قوائم المفردات المليئة بالمصطلحات مثل “ضربةٌ استباقية”، “سيارةٌ مفخخة” و”الكيان الصهيوني”. تعلمتُ أنَّ “هجومًا انتحاريًا” و”عمليةً استشهادية” هما الشيء نفسه، ولكن من وجهاتِ نظرٍ مختلفة، ولقد خبرتُ ثراء المعجم العربي في كلماتٍ مثل “ashlaa، أشلاء”، بمعنى “بقايا الجسد”، حيث توجد متناثرةً في الشارع بعد الانفجار.

بعد سلسلةٍ من التقارير البشعة، سألت ذات مرة مُدرّستنا لو استطعنا العمل على بعض قصص الثقافة، بالتأكيد فقد غطت بعض القنوات إنتاجًا مسرحيًّا جديدًا، أو فريقًا من رجال الإطفاء المصريين وهم ينقذون قطة ذات هيئةٍ فرعونية من شجرة، فقالت “نحن لم يكن لدينا حقًا مثل تلك التغطية هنا”. الآن، وبصفتي صحفيًّا، لم يكن يتوجب عليَّ تمامًا فهم هذه المصطلحات الشائكة، ولكن نشرها بصورةٍ صحيحة يجري اعتمادًا على من أتحدث إليهم.

كانت هناك حوادثَ مؤسفة؛ فذات مرة، وبعد أن أطلق المقاتلون في غزة وابلًا من الصواريخ على اسرائيل، اتصلت مع المتحدث باسم حركة الجهاد الاسلامي لأسأله من الذي كان “مسؤولًا” عن الهجوم؟ “الاحتلال الصهيوني وجرائمه ضد الشعب الفلسطيني”، قال وأغلق الخط.

لقد ازداد استقطاب وسائل الإعلام بسبب انتشار العنف في جميع أنحاء المنطقة، والذي تفاقم نتيجة التنافس بين السعودية وإيران، ولكن شبكةً عنكبوتية معقدةً من الصراعات يمكن أن تجعل من الصعب على أي قناة أن تبقى ثابتة في نهجٍ واحد؛ ففي الصراع السوري، على سبيل المثال، تصوّر القنوات المنسجمة مع إيران “الحكومة الشرعية” على أنها في حالةِ حربٍ مع “مسلحين” مدعومين من الخارج أو “إرهابيين” يسعون لإطاحة الدولة، ولكنها عندما تغطي اليمن -تلك القنوات نفسها- فإنّها تهتفُ للمسلحين الذين سيطروا على العاصمة، مشيرةً إليهم بِعَدِّهم “اللجان الشعبية”.

تخبرُ القنوات المتوافقة مع المملكة العربية السعودية قصصًا معاكسةً عن كلا المكانين، بالنسبة إليهم، الصراع السوري هو “ثورةٌ” تقاتل فيها “المعارضةُ” “النظامَ” الذي فقد “الشرعية”. والمتمردون في اليمن، من ناحيةٍ أخرى، هم “الميليشيات” التي تقاتل ضد “المقاومة الشعبية”، التي تسعى إلى استعادة الحكومة المخلوعة. ولكن بالنسبة إلى كل مصلحتهم في “الشرعية” في اليمن، فقد كانت تلك القنوات المدعومة من السعودية نفسها، لها قليل من المصلحة في مصر في عام 2013، عندما كانوا يهلّلون للانقلاب ضد الرئيس محمد مرسي، الذي انتُخب ديمقراطيًا. ذلك لا يهم، لأنه ينحدر من جماعة الإخوان المسلمين، وهي “منظمةٌ إرهابية”. وبالأساليب ذاتها في قناة الجزيرة، التي تدعو إطاحةـ السيد مرسي “انقلابًا” ضد الدولة “الشرعية”.

نفتقد للأسف -في كل هذا التراشق في وسائل الإعلام- أيّ انتقاد في الجهة ذاتها، أو أيّ تعاطفٍ مع الناس العاديين الذين ربما يكونون قد قتلوا نتيجة له؛ فـ “هناك قدرٌ كبير من النفاق، وهناك قدرٌ كبير من الدعاية، وكل واحد يُسيء استخدام اللغة،” قال هشام ملحم، وهو كاتبُ عمودٍ في واشنطن لقناة العربية.

وسائل الإعلام الأميركية، أيضًا، يمكن أن تكون مستقطبة، كما قال، وعندما تتنقل بين فوكس نيوز وشبكةMSNBC  يمكن أن تحصل على انطباعاتٍ مختلفة تمامًا عن المشكلة نفسها، ولكن الاختلافات أكبرُ بكثيرٍ في منطقة الشرق الأوسط. وأضاف “في العالم العربي إنه ليس بفوارق بسيطة،”، “إنه في كل المظاهر”.

في حين أنَّ القنوات الإخبارية العربية لم تخلق هذا الاستقطاب، لكنها تزيد منه، قال إلياس مهنا، وهو أستاذٌ مساعد للأدب المقارن في جامعة براون الذي يكتب عن السياسة في الشرق الأوسط والتاريخ والثقافة، وأضافَ قائلًا، “هذا لا يعني أنه ليس موجودًا هناك، ولكن هذه القنوات تكثفه بطريقة كبيرة، حيث يلجأ الناس إلى التلفزيون كلَّ يومٍ، لتتسرب لغة الاستقطاب هذه إلى الطريقة التي يفكرون بها حول تلك الأمور.”

أعلمُ الآن أنَّ عليك أن تكون حذرًا مما تسمونه “نظام”، وأنه في أعقابِ هجومٍ، لا تسأل كيف مات كثير من الناس، وعليك أن تسأل عن عدد “الشهداء”، إلا إذا كنت تتناول العدو. استمررتُ في التعلم، وخلال رحلةٍ حديثة العهد إلى اليمن، سألتُ مقاتلًا من المتمردين ما تدعوه جماعته عندما كانوا قد هاجموا الجبال وطردوا الحكومة إلى المنفى. كانت السعودية قد وصفته بأنَّه انقلابٌ. فقال مبتسمًا “نحن ندعوه “الثورة”.

اسم المقال الأصليThe Linguistic Labyrinth of Arabic News
الكاتببن هوبارد، Ben Hubbard
مكان النشر وتاريخهنيويورك تايمز، The New York Times، 14/01/2017
رابط المقالةhttps://www.nytimes.com/2017/01/14/opinion/sunday/learning-to-speak-al-jazeera.html?ref=opinion
ترجمةأحمد عيشة



المصدر