هل المشكلة في “آستانا” حقًا؟


محمد ديبو

مع اقتراب كل مؤتمر تفاوضي يتعلق بالمسألة السورية، تنقسم المعارضة السورية، أو ما يفترض أنها المعارضة السورية، بين مؤيد ورافض. حدث هذا الأمر في كل المؤتمرات السابقة، بدءًا من جنيف 1 و2 و.. وليس انتهاءً بفيينا (1 و2)؛ مرورًا بموسكو وغيره، ما يطرح أسئلة من نوع: علام يختلف هؤلاء إذا كان من رفض أيّ حوار في بداية الأمر يقبل اليوم بأيّ حوار؟ وهل هذا التغيير نابعًا من قراءة دقيقة لموازين القوى والتحولات الجارية، أم أنّه تحوّل سطحي، وحسب، لا جذر له؟

علاقة المعارضة السورية مع المؤتمرات الدولية تكشف هشاشة النخبة السياسية السورية وضعف ارتباطها بالثورة من جهة، وبالشعب الذي تدّعي تمثيله من جهة أخرى، وبقراءة الواقع والتحولات الدولية من جهة ثالثة، إذ تغيرت النخب المعارضة بين مؤتمر وآخر، على اختلاف أجنداتها، بالتوازي مع ثبات المعارضة على مفارقتها أرض الواقع باتجاه سماء الروافع الدولية؛ ما يعني أن المشكلة لم تكن أساسًا في أي مؤتمر من المؤتمرات السابقة ولا اللاحقة، بقدر ما هي مسألة ضعف المعارضة وضعف قدرتها على العمل السياسي ووضع العسكري في خدمة الأول، وبالتالي؛ تمثيل الثورة السورية تمثيلًا جيدًا؛ لأن المؤتمرات تعكس أجندة الدول الراعية لها، سواء كانت دولة واحدة، كما هو مؤتمر موسكو 1 و2، أم مؤتمرات جنيف وفيينا التي تمثل محصلة التوافق الدولي في لحظة ما. هذا أمر ثابت في السياسة، في حين أن المتحوّل يبقى في مدى قدرة الأطراف المدعوة إلى هذا المؤتمر أو ذاك على المناورة وفرض ما تريد، وهذا لا يكون دون امتلاك القوة، أي أن يكون للمفاوض امتداد على الأرض (سياسي أو عسكري)، يحرّكه أو يهدّد به؛ لينتزع ما يريد على طاولة التفاوض، وهو الأمر الذي لم تمتلكه المعارضة السورية يومًا، إذ إن مراجعة دقيقة لتاريخ المعارضة خلال الثورة، يكشف عرج هذه المعادلة.

ففي مؤتمرات جنيف، بدت المعارضة محمولة على الروافع الدولية الإقليمية أكثر مما هي محمولة على قوة الداخل، إذ لم يكن الائتلاف وقبله المجلس الوطني، وبعده الهيئة العليا للتفاوض.. لم يكن أي منهما نابعًا من قوة التمثيل، لا سياسيًا ولا عسكريًا، فضلًا عن تشرذم العسكر الذي لا معادل سياسي له حتى الآن، وهنا الكارثة المقبلة في آستانا؛ لأن للعسكر قوة الحضور بخلاف المؤتمرات السابقة، فإذا كنا سابقًا أمام “سياسة بلا عسكر”، فإننا اليوم أمام “عسكر بلا سياسة”، علاوة على أنّ ليس كلّ العسكر حاضرًا في وقت أعلن فيه عدد من الفصائل والتشكيلات العسكرية رفض الذهاب إلى مؤتمر آستانا؛ ما يعني أن النتائج المتحصلة عن أمر كهذا ستكون باهتة بالضرورة، فـ “المكتوب يُقرأ من عنوانه”، كما يقول المثل الشعبي؛ لأننا أمام عسكر لا أيديولوجيا توّحده، ولا آلية عمل أو هدف، وقد يكون هذا هو “الجديد” الوحيد في مؤتمر آستانا، وهو “جديد” ذو نتائج سلبية؛ لأنّ لموسكو هدفًا واضحًا من حضور العسكر، فهذا الغزل الروسي المفاجئ ليس عبثًا!

إذا كانت المؤتمرات السابقة نجحت في إظهار المعارضة السورية “السياسية” بأنها متفرقة ومشتتة وضعيفة، وليس لها تمثيل (سياسي وعسكري)؛ فهل حان الوقت -اليوم- لتفرقة الصف العسكري، وهو عنصر القوة الوحيد الباقي في الساحة السورية اليوم، دون أن يكون قوة في صف الثورة وأهدافها بالضرورة، إذا عدَدْنا أن هدف الثورة هو الدولة المدنية في الحد الأدنى، وهو ما تتعارض معه أجندة وأهداف عدد غير قليل من الفصائل؟

ليس هذا أمرًا مستبعدًا، بواقع أنّ موسكو هي الراعي لمؤتمر آستانا؛ إذ يبدو واضحًا أنّها تعمل على “تركيب” وفد المعارضة وفق ما يخدم أجندتها، أي: قبول الانتداب الروسي على سورية، فهي تعمل على عنصري السياسة والعسكر في آن واحد، خاصة أنها تعدّ الجيش السوري إحدى ركائزها الأساسية في سورية، وما دام أحد الأهداف التي لا يستقيم حل سوري دونها، هو العمل على ولادة جيش “وطني” سوري، فالسعي الروسي قائم -هنا- لإيجاد حل براغماتي لهذه المسألة، بما يبقي عناصر القوة بين يديها، إضافة إلى سعيها لخلق مسوّغ لضرب أي فصيل يرفض الحل الذي يتفّق عليه دوليًا في وقت لاحق؛ ما يعني أنّنا أمام الخطوة التي ستفرز العسكر لاحقًا، بين قابل بالحل السياسي ورافضه، ليضاف الرافضون إلى خانة “الإرهابيين” الذين يجري العمل على عزلهم، بالتوازي مع السعي لنسج علاقة مباشرة مع الكتائب على الأرض؛ للتخلص تدرّجًا من “السياسيين” الذين فرضتهم الروافع الدولية سابقًا، إن لم يندرجوا ضمن الإطار الروسي.

خلاصة الأمر، ليست المشكلة في مؤتمر آستانا، ولن تكون في أي مؤتمر لاحق؛ حتى لو امتلك آليات الحل العادل في المستوى النظري؛ لأن الحل -في نهاية المطاف- تفرضه محصلة قوى محلية ودولية وإقليمية، في الوقت الذي لا تزال فيه المعارضة السورية (سياسية وعسكرية) تشكل تراجعًا تلو الآخر، وكأن قاطرتها تسير إلى العكس، إذ يكفي أن نفترض ما يلي لنعرف الواقع الذي نرقد به: لو تقرّر غدًا الذهاب إلى مؤتمر دولي يضع برنامج مؤتمر جنيف 1 على أجندة التفاوض، بما في ذلك تشكيل هيئة حاكمة انتقالية، فما الذي تمتلكه المعارضة السورية من عناصر قوة عملية للذهاب قدمًا بالتفاوض نحو تحقيق هدفها؟




المصدر